جمال سلات

الأمن الوطني وأرض القوس المنفرد

الأربعاء - 22 أبريل 2020

Wed - 22 Apr 2020

أجهزة الإنعاش الرئوي، القفازات المطاطية، الكمامات، وكل المعدات اللازمة لمواجهة الوضع الصحي العالمي الاستثنائي، تضاعف الطلب عليها مئات المرات خلال فترة قصيرة، مما أدى إلى نقص حاد فيها اضطر الممارسين الصحيين في بعض الدول إلى الاختيار بين المرضى؛ أيهم أكثر فرصة للنجاة فيعطونه جهاز الإنعاش! دفع هذا كثيرا من الدول إلى الاتجاه نحو تصنيعها داخليا بعد عدم قدرة الاستيراد على تلبية الطلب العالمي، وكما قال الرئيس الأمريكي ترمب «إنها مسألة حياة أو موت».

لكن هل سيقف الأمر عند الاكتفاء ذاتيا بتصنيع أجهزة التنفس الصناعي ليس غير؟

في الحقيقة، الاضطراب الحاصل الآن كان حجرا كبيرا وقع في بئر الأمن القومي والاستراتيجي وإدارة المخاطر في دول كثيرة، خاصة التي تعتمد على الاستيراد أو التي تقوم اقتصاداتها على الصناعات التحويلية وإعادة التصدير.

وفيما يبدو أن الاتجاه نحو الاكتفاء الذاتي من كل شيء، أو حتى توفير دورة اقتصاد داخلي كاملة أو شبه كاملة لكل دولة، سيكون هو السائد في كثير من دول العالم، ولنقل على مستوى كل منطقة على الأكثر، هذا ما يؤكده الاضطراب العام في سلاسل الإمداد وحركة النقل العالمية في أزمة عمرها أشهر قليلة يمكن أن تتكرر أو يأتي ما هو أشد منها بكل بساطة.

هذا السعي إلى الاكتفاء سيركز على السلع والمنتجات الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها، وهي الماء والغذاء والدواء، وبالتأكيد لن يشمل السلع الكمالية أو حتى غير الضرورية التي ستنهار المنظومة المالية القائمة على تصنيعها وتجارتها مستقبلا.

الدول الآن تعيد حساباتها، وعلينا أن نفعل ذلك أيضا، فعلى الرغم من تحقيق الاكتفاء الذاتي بل والتصدير في كثير من السلع الأساسية، خاصة المتعلقة بالمنتجات النفطية، إلا أن النقص في المخزون المائي وبالتالي الإنتاج الزراعي يجب أن يناقش بشكل مختلف هذه المرة، فماذا لو توقف النقل العالمي ومعه خطوط الاستيراد والتصدير مثلا؟

ماذا لو كانت كلمة السر هي «السودان»، فهي دولة مُشاطئة على البحر الأحمر ولا يفصل بين ميناءي جدة وسواكن إلا 333 كلم، مما يوفر سلسلة إمداد سهلة ورخيصة وآمنة؟ ماذا إذا علمنا أيضا أن المساحة القابلة للزراعة فيها تصل إلى 84 مليون هكتار، المستغل منها لا يتجاوز الـ 25 مليونا في أعلى التقديرات؟ أضف إلى ذلك وجود ثروة حيوانية ضخمة جدا، ومناخات متعددة مناسبة لزراعة أكثر المحاصيل الأساسية. ولا ننسى الطبيعة المسالمة لشعبها الشقيق والاحترام المتبادل بين شعبي البلدين، مما يوفر مناخا آمنا لهذا الاستثمار.

ربما آن الأوان لخلق نظام تبادل تجاري زراعي صناعي جديد، يعتمد في جزء منه على تبادل السلع والخدمات، وفق قوانين خاصة بالمنطقة، يوفر الأمن الغذائي على المدى الطويل، إذ يمكن مثلا الاستثمار في الزراعة والثروة الحيوانية في أرض السودان، التي كانت تسمى قديما «تاسيتي» وتعني (أرض القوس المنفرد) لانحناء نهر النيل فيها، وفق اتفاقيات طويلة المدى تصل إلى 50 عاما بالاعتماد على الشركات الزراعية السعودية الضخمة وذات الخبرة الزراعية الكبيرة، مقابل تقديم المواد الأساسية كالفوسفات والاسمنت والحديد والصناعات الأساسية لتطوير البنى التحتية والزراعية هناك، مما يؤدي إلى تثبيت دعائم الاستقرار في المنطقة على المدى الطويل.

ولا ننسى الإشارة إلى وجوب الاعتناء أكثر بالمناطق الداخلية القابلة لزراعة الأشجار المثمرة دون أن تهدد المخزون المائي، كسلسلة جبال السروات الممتدة إلى الجنوب، ولا بد أيضا من الاهتمام أكثر بالأمن المائي، فهناك مناطق كثيرة في المملكة يمكن أن تنشأ فيها سدود مائية للاستفادة من كل قطرة ماء.

في النهاية، يمكن أن تواجه مثل هذه المشاريع صعوبات ومعوقات كثيرة، لكن التغلب عليها يكون بالإرادة والتخطيط الصحيح والعمل المبني على الشراكة التي تراعي جميع الأطراف.

@jamalsallat