هادي الفقيه

شكرا لله على كورونا

السبت - 16 مايو 2020

Sat - 16 May 2020

نعم، شكرا لأنها قدر الله تعالى، ثم لأن الأزمات في التاريخ السعودي دائما كانت ترسخ لسعودية أقوى. وأكاد أجزم أن أكثر المستفيدين من هذه الأزمة مستهدفات «رؤية المملكة 2030» التي ستتحقق مبكرا.

أتذكّر وجيلي، فترة ما قبل حرب الخليج، عندما كانت بلادنا تتأهب لقفزة تنموية عظيمة مع نهاية الثمانينات الميلادية، فأتت الحرب، ثم أزمة انخفاض أسعار النفط، لتنهك بلادنا ماليا، إلا أنها رفعت شأنها وهيبتها وقيمتها محليا وإقليميا ودوليا.

وألقت الأزمة بظلالها على كل شيء فأصبح جيل التسعينات، طلابا وموظفين، موزعين بين محلات بيع الخضار وكبائن الاتصالات، وحتى المهن البسيطة، واليوم معظمهم إما رجال أعمال أو موظفون مرموقون. وتوقفت مشاريع كثيرة وعلقت الوظائف، إلا التعليم وتوظيف المعلمين والمهندسين والتخصصات الطبية.

ظلت بلادنا شامخة في كل محنة، لتكون بالفعل منحة، فلم يتوقف الاستثمار في الإنسان، وبلغ ذروته عندما انتعشت أسعار النفط وعادت بلادنا إلى الرخاء الاقتصادي، فضاعفت الاستثمار في رأسمالها البشري، وتوسعت في الجامعات وأرسلت مئات الآلف من الفتيات والشبان إلى قارات العالم الخمس لتحصيل المعارف والمهارات من دول العالم الأول وأفضل جامعاتها طيلة 15 عاما متواصلة وبسخاء.

ليس ذلك فحسب، بل تحول الوطن إلى ورشة عمل ضخمة لتطوير البنية التحتية، وبناء الآلاف من المؤسسات الحكومية والتعليمية والترفيهية، واستحداث أجهزة حديثة لمواكبة التحديات، رغم أنف الإرهاب والأجواء الدولية المتوترة. وكان التوسع في مجال تقنية المعلومات وبناء بنية تحتية رقمية ضخمة ومتطورة تؤكد النظرة الأكثر عمقا تجاه المستقبل، إذ لمسنا اليوم مدى أهميتها، ابتداء بتحول الحكومة للعمل الكترونيا، مرورا بتطبيقات الطلبات وحتى دراسة ما يقارب ستة ملايين مواطن ومقيم من بيوتهم.

وأتت فخر السعوديين وطريقهم للمستقبل «رؤية المملكة 2030»، أو سلاحنا الأهم لمواجهة المستقبل المحمل بالصعوبات المتوقعة، لندرك أهميتها أكثر بعد أن عجلت جائحة كورونا بوصول التحديات قبل وقتها. فصعود أسعار النفط وهبوطها، وتعطل الاقتصاد العالمي، ظهرت آثارها جلية في لقاء وزير المالية محمد الجدعان الذي تحدث بصراحة عن الأيام الصعبة المقبلة وضرورة «شد الحزام»، وكلام الوزير امتداد لسياسة الشفافية التي تنتهجها المملكة في كل الظروف والأوقات.

الوجه الآخر الذي غفل عنه كثر يفخرون بالظهور اليومي لمتحدث الصحة ومتحدثي باقي القطاعات، ويراقبون عمل الجهات الحكومية بصورة تكاملية وشفافة، في مواجهة الأزمة؛ هو الحكومة القوية الديناميكية ثمرة برنامج إعادة هيكلة أجهزة الدولة، استجابة لمتطلبات رؤية المملكة 2030، إذ لم نجرب الآلية الجديدة وفوائد الهيكلة المعززة للإنتاجية والمحاسبة وسرعة التحرك في أزمة لنقيس أهمية ما فعلنا، بل كنا نلمسها في برامج ترفيهية، واستثمارات للمستقبل، وأتى الوقت الأهم لنعرف أننا نمشي في الطريق الصحيح.

تحاول الحكومة جاهدة تقديم كل ما يمكن لحفظ اقتصاد بلادنا، عبر حزم مختلفة وتسهيلات من جانب وإجراءات تقشفية من جانب آخر، لكن السؤال: ما الواجب على المواطن؟ الجواب سهل لأن دروس التاريخ واضحة، وكان الإنسان السعودي سباقا دائما وسندا لوطنه وحكومته، لكن ربما التذكير مهم في هذا الوقت بأن نعطي أكثر مما نطلب.

إن أبرز ما يجب أن نحرص عليه في الأشهر المقبلة، هو التضامن الاجتماعي، والسؤال عن المحتاجين والمتضررين من هذه الجائحة. العطاء يجب ألا يقتصر على بذل المال، بل بمضاعفة الأعمال التطوعية للجمعيات والبرامج الخيرية والحملات التطوعية، كذلك أن يحرص كل من أغدق الله عليه، على أن لا يباهي بالنعم علنا ويكسر قلوب الفقراء، خاصة في زمن حمى التباهي عبر «السوشال ميديا» و»تسليع» كل شي، ودفع الناس إلى شهوة الشراء، ولنتذكر تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك، وقوله «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم».

أما على المستوى الشخصي، فسيكون مفيدا أن يعيد الإنسان ترتيب أولوياته، مثل التقليل من الذهاب إلى المطاعم، والتوقف عن السفر أو حتى الذهاب إلى وجهات سياحية أرخص، وليس عيبا أن يعمل الشخص في وظيفتين، أو حتى يبيع سيارته الفارهة ويأخذ أخرى عملية وموفرة، وربما استقلال وسائل النقل العام، مثل الحافلات أو حتى المترو في الرياض قريبا. أجزم أننا سنرى إبداعا سعوديا، وما شهدناه في أوقات الرخاء يجعلنا جميعا نؤمن أن المقبل مذهل في أيام الشدة لأن «الحاجة أم الاختراع».

إن الرد المختصر لما سيكون عليه المستقبل هو مقولة أستاذنا في الإعلام محمد التونسي «اقتصادنا قوي بِنا»، وأضيف على ما قال بأن أكبر كنوز السعودية اليوم هو رأس المال البشري النوعي، فجيش الأطباء والمهندسين والمخترعين والاقتصاديين وغيرهم من خريجي جامعتنا المحلية وأكبر وأعظم الجامعات العالمية، قادر على كتابة تاريخ يفخر به الوطن، وستشهد المرحلة المقبلة ولادة منجزات سعودية عظيمة تكون قاطرة قيادة اقتصاد رأس حربته الابتكار، والمنتج الإنساني الفريد.

أخيرا، إن رؤية المملكة 2030 ولدت في عهد رخاء ووفرة مالية، وانطلقت بين إنفاق عال يسعى إلى التسريع بظهور المخرجات، وتجربة جديدة، تقول «إن لم ننجح سنجرب لأن المال متوفر». أما اليوم فالأزمة هي الضربة التي لن تقتل، بل تزيد اقتصادنا قوة إلى المستقبل، وتأخذنا إلى مستهدفات الرؤية أسرع وأكثر قوة وإحساسا بلذة المنجز. كذلك من كان يشكك في أهمية هذه الرؤية سيكون إيمانه أكبر بها، وأسفه أعمق لأنه كان بين مشكك ومتيقن. وستبقى السعودية ثابتة شامخة وغيرها يتحرك متأرجحا ومضطربا، والتاريخ مليء بالدروس.

@Hadi_Alfakeeh