مرزوق بن تنباك

أنصاف الحلول ليست هي الحل

الثلاثاء - 12 مايو 2020

Tue - 12 May 2020

للمجتمع بنية وجسد مثلما للإنسان جسد وبنية، وكل يعرف التفاوت الكبير في أعضاء الجسد والوظائف التي يقوم بها كل عضو، فوظيفة الرأس لا تقوم بها اليدان ولا الأقدام، وكذلك بنية الجسد الاجتماعي فيها القوي الذي يحتمل الصدمات ويردها وفيها الضعيف اللين الذي لا يحتمل شيئا، والخاصرة في الجسد يضرب بها المثل للضعف والتأثر، ومثلها خاصرة المجتمع التي تعيش وتبقى بفضل مكانها المحمي بالأطراف الصلبة القوية، وكلما اتسعت خاصرة المجتمع أحدثت الترهل والضعف للجسد كله.

ومثلما تكشف الأمراض والعلل ضعف الجسد تكشف الأزمات الاجتماعية ضعف خاصرة المجتمع ومواقع ترهله، وتبين عوارها وتظهر ما خفي منها وتكشف ما استتر، وهذا ما كشفه وباء كارونا.

ويبدو أن دول الخليج العربية والمملكة خاصة تواجه التمدد والترهل في خاصرة المجتمع التي هي المهاجرون فيه، وما سينتج عنها من خطر على جسد المجتمع كله إن لم يسارع في علاجها وحسم الأمر بقوانين تحافظ على التوازن المناسب، وتجنبه العوارض التي يتعرض لها سيما مجتمعنا، وتحديد الأعضاء الأقوى، وتلك القابلة للكسر والانحناء والامتداد والترهل.

والمواجهة التي كشفها الوباء في هذه الأيام أبرزت تكتلات سكانية عششت في خاصرة المدن الكبيرة، خاصة في مدن الحجاز مكة المكرمة والمدينة المنورة ومدينة جدة تلك التكتلات السكانية لم تكن وليدة اليوم، ولا كان وضعها خفيا لكنها مشكلة تواجه مدن الحجاز منذ زمن بعيد، وكان التعامل اللين قد فاقمها وعقد الحلول المناسبة لها في حينه، حتى أصبح التعامل معها في منتهى الصعوبة ومنتهى الحساسية التي تترتب عليه، وأعني بذلك التكتلات السكانية الضخمة المهاجرة التي كانت هجرة بعضها قانونية سمح بها لظروف خاصة، وبعضها هجرته مخالفة وغير شرعية، وبعضها يمكن التخلص منه وبعضها مستحيل ذلك.

والهجرة لم تعد مشكلة بلد معين، ولكنها مشكلة العالم بأجمعه، وأكبر دولة وأعظم اقتصاد هي أمريكا وهي الدولة الوحيدة في العالم التي كل سكانها من أصول مهاجرة، وليس بينهم تفاوت إلا في تقادم الزمن والهجرة، ومع ذلك كانت قضية المهاجرين الجدد إلى أمريكا، خاصة من جارتها أمريكا الجنوبية قضية تضعها كل حكومة أمريكية على رأس أولوياتها، حتى بلغ الأمر من خطورة الهجرة عليها أن فكرت حكومة ترمب ببناء سور بين الأمريكتين كسور الصين لوقف تدفق الهجرة غير المشروعة، ومنع ما يترتب عليها من أضرار.

ومثلما تعاني أمريكا أصبحت أوروبا تواجه فيض المهاجرين، خاصة من قارتي آسيا وأفريقيا، وما تلحقه هذه الهجرات من مشكلات تنذر بالخطر الكبير على تلك المجتمعات رغم حاجتها لليد العاملة الشابة وتقدم سن مجتمعاتها الأصلية، مما يجعل هجرة الشباب مقبولة لديهم ونافعة لهم، ومع ذلك وقفوا في وجه الهجرات وبذلوا كثيرا من الاحتياط لئلا تزيد الأعداد التي قد تغير في بنية المجتمع السكاني أو تخترق قيمه وتقاليده وعاداته.

أما عندنا فإن الهجرة الأولى هي تلك التي طال أمدها ويكاد يستعصي حلها رغم عدد من المحاولات في السنوات الأخيرة، وهي التي قدمت من شرق آسيا منذ زمن بعيد، وسمح لمن أتى وقتها بالإقامة والبقاء لظروف إنسانية معروفة قدرها المسؤولون وتعاطفوا معها من جانب إنساني وديني في بداية أمرها، ولكنه أهمل التعامل القانوني معها في حينه، والثانية الهجرة التي أتت من القارة السوداء عن طريق التهريب والتكاثر، وارتكز وجودهما في مدن الحجاز، خاصة في مكة وجدة، وتركتا إن لم تكن نسيتا وتكاثرتا في غفلة من الزمن، دون أن يحسم أمر إقامة هؤلاء قانونيا، واليوم أصبحت قضية هؤلاء قضية لا يمكن التغافل عنها ولا نسيانها أو تأجيل حلها. إن حل هاتين الهجرتين في منتهى الصعوبة اليوم، ولكنه سيكون في منتهى الخطر في المستقبل على المجتمع كله.

ولعل أقرب الحلول الممكنة في الوقت الراهن عدم السماح لهاتين الكتلتين الكبيرتين بالتجمع في مكان واحد ولا مدينة واحدة، واتخاذ التفريغ التدريجي والتدوير المنظم لهما، وتفكيك تكتلهما على مراحل حتى يمكن الدمج الاجتماعي ويمكن التباعد النوعي، وتقديم الحوافز والإغراء المادي والمعنوي لمن يقبل التحول إلى أماكن بعيدة ولو في الداخل أو إلى دول أخرى، مثلما حاولت ألمانيا مع المهاجرين المغاربة.

وباختصار شديد فإن أنصاف الحلول للتكتل السكاني الضخم الذي أشرنا إليه ليست هي الحل، بل هي الخطر المؤجل بعينه.

Mtenback@