ما الذي كان ثوريا في الثورة الأمريكية؟
الأحد - 03 مايو 2020
Sun - 03 May 2020
«ميلاد أمة في متناول اليد». هذا ما كتبه توماس باين في المنشور الثوري عام 1776، حيث قامت ثورة ثلاث عشرة مستوطنة ضد بريطانيا العظمى في أمريكا الشمالية في تمرد ضد الحكم البريطاني وأعلنت نفسها دولة مستقلة حديثة. كانت الثورة الأمريكية شيئا لم يره العالم أبدا سياسيا واقتصاديا ودبلوماسيا. دعونا نلق نظرة على هذه النقاط.
في السياسة الثورات نفسها لم تكن حالة جديدة، فبعد مرحلة التنوير الإيطالي كانت الثورات في أوروبا في أشدها، دول اختفت للأبد. بريطانيا نفسها مرت في ثورتين في القرن السابع عشر. عانت دول أخرى في أوروبا من اضطرابات مماثلة. ثورة الاستقلال الأمريكية في بدايتها كان لها هدفان: استبدال النظم الحالية بأخرى مثلما حدث في الثورة الفرنسية أو ابتزاز الحكومة البريطانية لزيادة الامتيازات مثلما حدث مع أسكتلندا في ثورتها ضد بريطانيا. لم يقترح الأمريكيون مجرد الاستقلال عن النظام البريطاني. بل اقترحوا إنهاء فكرة نظام الحكم البريطاني كشكل ذي قيمة للحكومة. في أمريكا الحديثة سيحمل المواطن - وليس الحكومة مفاتيح السلطة.
مع هذا الانقلاب على الطريقة القديمة جعل المتمردون الأنظمة السياسية في أوروبا تبدو قديمة وغير مواكبة للتطور الاجتماعي والإنساني، تماما كما حدث مع قوانين نيوتن الفيزيائية التي نشرها في العصور الوسطى، تبدو اليوم قديمة وغير منطقية. كما كان مع السياسة في البداية ممثلو المستعمرات، كانت مطالبهم الإنضمام إلى البرلمان البريطاني لأنهم يدفعون الضرائب لبريطانيا، رفضت الحكومة البريطانية ذلك، تحولت تلك المطالب إلى إنشاء منظومة سياسية جديدة سوف تغير مجرى التاريخ.
كما كان الحال مع السياسة، كان الحال مع الاقتصاد أكثر تغيرا. كان تغير النظام القديم يعني أكثر من مجرد رفض أخذ الأوامر السياسية من بريطانيا ومن الدوقات، إنه يعني عدم أخذ أوامر اقتصادية منهم أيضا. في مجتمع من المواطنين الأحرار والمتساوين، سيتبع الأمريكيون مبادرتهم الاقتصادية الخاصة، سيكونون أحرارا اقتصاديا كما كانوا سياسيا، يعني نموذج الحكومة الصغيرة هذا أن الدولة كان عليها أن تتدخل بأقل قدر ممكن في حياة المواطن.
أسس الأمريكيون الدولة الوحيدة على الإطلاق التي تقوم على مبدأ تقييد الحكومة، وهذا أطلق العنان لهذا النمو الاقتصادي الديناميكي، فأخذ أمريكا من دولة وليدة إلى قوة عالمية في 50 سنة فقط. يمكن لطفل ولد في عام 1776 أن يعيش لرؤية نظام الممرات الملاحية التجارية من نيويورك إلى نيو أورلينز ورؤية قفزة التلغراف الكهربائية عبر مسافات لم يسمع بها في الاتصالات، حيث ينقل القارب البخاري والسكك الحديدية الركاب والشحن بجزء من تكلفة الحصان والعربة.
كانت الحداثة والنجاح للثورة السياسية والاقتصادية كبيرين ورائعين للغاية لدرجة أن العديد من الأمريكيين مثل رئيس جامعة ييل تيموثي دوايت أعربوا عن الرغبة ليس في إعادة تشكيل القارة الأمريكية الشمالية فحسب ولكن بقية العالم.
كتب دوايت قصيدة شعبية في ذلك الوقت «لنخمد صخب الحروب، ولنعط السلام للعالم». لكن المؤسسين رفضوا هذا الرأي بعيدا عن أي رغبة في مشاركة التجربة الأمريكية مع العالم، كان المؤسسون ينظرون إلى بقية العالم على أنه تهديد محتمل للدولة الحديثة والتجربة الجديدة. الدول الأوربية بما فيها بريطانيا حريصة على خنق التجربة الأمريكية، إما عن طريق إعادة فرض الإمبراطورية أو عن طريق الارتباط السياسي والاقتصادي مع دول عظمى في ذلك الوقت، المؤسسون أيضا لا يريدون أن تمر أمريكا في تجربة ثورة مريرة كما حدث في فرنسا. تم التعبير عن الموقف الأمريكي ضد التدخلات الخارجية في أمريكا وضد التدخل الأمريكي في الدول الأخرى من قبل وزير الخارجية آنذاك جون كوينسي آدامز في عام 1821 «أينما كان معيار الحرية والاستقلال سيكون هناك قلب (أمريكا)، وبركاتها، وصلواتها لكنها لا تذهب إلى الخارج بحثا عن الوحوش لتدميرها».
بالطبع، لم تعش الولايات المتحدة دائما بمبادئ المؤسسين، لقد سمحت أمريكا لنفسها بأن تنجذب إلى مغامرات خارجية كان المؤسسون يرفضونها. كما لم ترق الولايات المتحدة دائما إلى أفضل المثل العليا الأخلاقية، وقد شهدت في أوقات مختلفة تحول التجارة غير المقيدة إلى احتكار وفساد، وكان عليها أن تتعامل مع عار العبودية الرهيب وآثاره والحقوق والمساواة.
البشر غير كاملين، وبالتالي فإن أي شكل من أشكال الحكومة التي يديرونها سيكون كذلك، لكن العجيب في أمريكا منذ تأسيسها حتى يومنا هذا ليس أنها تعثرت بإيجابيتها وسلبيتها، العجيب هو أن الأمريكيين تعثروا كثيرا لكن استمروا في البحث عن مبادئ المؤسسين والدستور، تمكنوا من جعل أمريكا أقوى دولة في العالم والحفاظ عليها.
ميلاد الأمة الذي أعلن عنه توماس باين لا يزال يستحق تحليل تلك التجربة التي هي بصمة في تاريخ البشرية، يكفي المؤسسين كتابة الدستور الأمريكي الذي أطلق عليه كثيرون حول العالم أنه من أعظم القطع الأدبية التي كتبت على الإطلاق، ليس بسبب كل ما كتب فيه على الرغم من أن ما كتب عظيم، لكن بشكل رئيس بسبب ما لم يكتب في الدستور.
الدستور الأمريكي يفترض أن حقوق المواطنة والمواطن معطاة من الله وليست من الحكومة، جوهر الدستور والفكرة الأمريكية تقديم نظرة متوازنة لدور الحكومة ومسؤولية الأفراد، فذلك يعد أحد أفضل إنجازات التجربة الأمريكية التي أثارت وأثرت على دول عديدة، وأدت إلى انتشار الأنظمة الحكومية الديمقراطية، وهو ما يجعلها فريدة ويجعل الولايات المتحدة اليوم القوة العظمى في العالم.
mr_alshammeri@
في السياسة الثورات نفسها لم تكن حالة جديدة، فبعد مرحلة التنوير الإيطالي كانت الثورات في أوروبا في أشدها، دول اختفت للأبد. بريطانيا نفسها مرت في ثورتين في القرن السابع عشر. عانت دول أخرى في أوروبا من اضطرابات مماثلة. ثورة الاستقلال الأمريكية في بدايتها كان لها هدفان: استبدال النظم الحالية بأخرى مثلما حدث في الثورة الفرنسية أو ابتزاز الحكومة البريطانية لزيادة الامتيازات مثلما حدث مع أسكتلندا في ثورتها ضد بريطانيا. لم يقترح الأمريكيون مجرد الاستقلال عن النظام البريطاني. بل اقترحوا إنهاء فكرة نظام الحكم البريطاني كشكل ذي قيمة للحكومة. في أمريكا الحديثة سيحمل المواطن - وليس الحكومة مفاتيح السلطة.
مع هذا الانقلاب على الطريقة القديمة جعل المتمردون الأنظمة السياسية في أوروبا تبدو قديمة وغير مواكبة للتطور الاجتماعي والإنساني، تماما كما حدث مع قوانين نيوتن الفيزيائية التي نشرها في العصور الوسطى، تبدو اليوم قديمة وغير منطقية. كما كان مع السياسة في البداية ممثلو المستعمرات، كانت مطالبهم الإنضمام إلى البرلمان البريطاني لأنهم يدفعون الضرائب لبريطانيا، رفضت الحكومة البريطانية ذلك، تحولت تلك المطالب إلى إنشاء منظومة سياسية جديدة سوف تغير مجرى التاريخ.
كما كان الحال مع السياسة، كان الحال مع الاقتصاد أكثر تغيرا. كان تغير النظام القديم يعني أكثر من مجرد رفض أخذ الأوامر السياسية من بريطانيا ومن الدوقات، إنه يعني عدم أخذ أوامر اقتصادية منهم أيضا. في مجتمع من المواطنين الأحرار والمتساوين، سيتبع الأمريكيون مبادرتهم الاقتصادية الخاصة، سيكونون أحرارا اقتصاديا كما كانوا سياسيا، يعني نموذج الحكومة الصغيرة هذا أن الدولة كان عليها أن تتدخل بأقل قدر ممكن في حياة المواطن.
أسس الأمريكيون الدولة الوحيدة على الإطلاق التي تقوم على مبدأ تقييد الحكومة، وهذا أطلق العنان لهذا النمو الاقتصادي الديناميكي، فأخذ أمريكا من دولة وليدة إلى قوة عالمية في 50 سنة فقط. يمكن لطفل ولد في عام 1776 أن يعيش لرؤية نظام الممرات الملاحية التجارية من نيويورك إلى نيو أورلينز ورؤية قفزة التلغراف الكهربائية عبر مسافات لم يسمع بها في الاتصالات، حيث ينقل القارب البخاري والسكك الحديدية الركاب والشحن بجزء من تكلفة الحصان والعربة.
كانت الحداثة والنجاح للثورة السياسية والاقتصادية كبيرين ورائعين للغاية لدرجة أن العديد من الأمريكيين مثل رئيس جامعة ييل تيموثي دوايت أعربوا عن الرغبة ليس في إعادة تشكيل القارة الأمريكية الشمالية فحسب ولكن بقية العالم.
كتب دوايت قصيدة شعبية في ذلك الوقت «لنخمد صخب الحروب، ولنعط السلام للعالم». لكن المؤسسين رفضوا هذا الرأي بعيدا عن أي رغبة في مشاركة التجربة الأمريكية مع العالم، كان المؤسسون ينظرون إلى بقية العالم على أنه تهديد محتمل للدولة الحديثة والتجربة الجديدة. الدول الأوربية بما فيها بريطانيا حريصة على خنق التجربة الأمريكية، إما عن طريق إعادة فرض الإمبراطورية أو عن طريق الارتباط السياسي والاقتصادي مع دول عظمى في ذلك الوقت، المؤسسون أيضا لا يريدون أن تمر أمريكا في تجربة ثورة مريرة كما حدث في فرنسا. تم التعبير عن الموقف الأمريكي ضد التدخلات الخارجية في أمريكا وضد التدخل الأمريكي في الدول الأخرى من قبل وزير الخارجية آنذاك جون كوينسي آدامز في عام 1821 «أينما كان معيار الحرية والاستقلال سيكون هناك قلب (أمريكا)، وبركاتها، وصلواتها لكنها لا تذهب إلى الخارج بحثا عن الوحوش لتدميرها».
بالطبع، لم تعش الولايات المتحدة دائما بمبادئ المؤسسين، لقد سمحت أمريكا لنفسها بأن تنجذب إلى مغامرات خارجية كان المؤسسون يرفضونها. كما لم ترق الولايات المتحدة دائما إلى أفضل المثل العليا الأخلاقية، وقد شهدت في أوقات مختلفة تحول التجارة غير المقيدة إلى احتكار وفساد، وكان عليها أن تتعامل مع عار العبودية الرهيب وآثاره والحقوق والمساواة.
البشر غير كاملين، وبالتالي فإن أي شكل من أشكال الحكومة التي يديرونها سيكون كذلك، لكن العجيب في أمريكا منذ تأسيسها حتى يومنا هذا ليس أنها تعثرت بإيجابيتها وسلبيتها، العجيب هو أن الأمريكيين تعثروا كثيرا لكن استمروا في البحث عن مبادئ المؤسسين والدستور، تمكنوا من جعل أمريكا أقوى دولة في العالم والحفاظ عليها.
ميلاد الأمة الذي أعلن عنه توماس باين لا يزال يستحق تحليل تلك التجربة التي هي بصمة في تاريخ البشرية، يكفي المؤسسين كتابة الدستور الأمريكي الذي أطلق عليه كثيرون حول العالم أنه من أعظم القطع الأدبية التي كتبت على الإطلاق، ليس بسبب كل ما كتب فيه على الرغم من أن ما كتب عظيم، لكن بشكل رئيس بسبب ما لم يكتب في الدستور.
الدستور الأمريكي يفترض أن حقوق المواطنة والمواطن معطاة من الله وليست من الحكومة، جوهر الدستور والفكرة الأمريكية تقديم نظرة متوازنة لدور الحكومة ومسؤولية الأفراد، فذلك يعد أحد أفضل إنجازات التجربة الأمريكية التي أثارت وأثرت على دول عديدة، وأدت إلى انتشار الأنظمة الحكومية الديمقراطية، وهو ما يجعلها فريدة ويجعل الولايات المتحدة اليوم القوة العظمى في العالم.
mr_alshammeri@