أحمد الهلالي

المدح المقارن نسق ثقافي قديم!

الثلاثاء - 28 أبريل 2020

Tue - 28 Apr 2020

النسق الثقافي يظل مهيمنا، يصعب التخلص منه، إلا إذا استطعنا رصده وفهمه وكشف مواطن خلله وعواره، ثم تأتي إرادة التخلص أو التقليل من هيمنته حتى يتلاشى، أو يتحور، وما أكثر الأنساق الثقافية المهيمنة على خطاباتنا سواء وعينا ذلك أم لم نعِه، وهذا الباب واسع يحتاج إلى نظر المتخصصين في النقد الثقافي، والأدباء الذين يستطيعون اكتشاف الأنساق القديمة أو الحديثة ثم إبرازها في أعمالهم الأدبية والفنية حتى يعيها المجتمع ويضعها تحت مجهر التأمل والمراجعة.

من الأنساق الثقافية المهيمنة حاليا ما رصدته في كثير من الخطابات المدحية المعتمدة على المقارنة، فلا يستطيع المادح أن يفرد ممدوحه بالثناء دون أن يستدعي آخرين، وقد لفتني هذا الخطاب حين شكل ظاهرة بارزة على تويتر، فقلما تجد تغريدة تثني على إنسان أو قطاع مميز إلا ويستدعي صاحبها آخرين يقارنهم بهذا الممدوح ليجعلهم قاعا والممدوح سماء، فعلى سبيل المثال رصدت مئات التغريدات المدحية لمواقف بطولية لأحد كوادر القوات المسلحة أو الأمن أو الصحة أو مواطن متميز، لكنها لا تتركه مفردا بالمدح، فلا بد أن تقيد المدح باستحضار (فناني الدراما/ ومشاهير التواصل الاجتماعي/ والمطربين/ واللاعبين...)، وفي المقابل تغريدات هجاء المشاهير أو الأغنياء، تستدعي مباشرة المقارنة بآخرين (مدحا/ أو هجاء)، فإن أخطأ مشهور استدعى المغردون شخصيات من فئات اجتماعية أخرى للمقارنة، وأنهم أحق منه بكذا وكذا، وكل هذا في رأيي عبث، وانتصار للنوازع النفسية لدى المادح أو الهاجي، لكن ما يهمني هنا هو وجود النسق.

عند تأمل هذا النسق وجدته موغلا في تكويننا الثقافي، فمعظم مدائحنا مبنية على استدعاء الآخر (الند أو الضد) والمقارنة بينه وبين الممدوح، فالثقافة العربية التي تشكلت منذ أمد بعيد خلقت أنساقها ومنها هذا النسق (المدح المقارن)، وغذته بخطابها النثري والشعري حتى أخذ مجراه المحدد في الذهنية العربية إلى جوار الأنساق الثقافية الأخرى، ولعلي لا أجانب الصواب إن اعتبرت المنافرات في عصر ما قبل الإسلام، وكذلك في العصر الإسلامي هي الماء الذي كان يجري في أخدود هذا النسق، فتتطور المنافرات لتصبح فنا شعريا قائما في (النقائض) الأموية، فانضافت إلى ماء المنافرات، واتخذت سبيلها في الذهنية العربية الحديثة، فتشربتها ثنائية (المدح والهجاء) التي لا يخلو منها لون شعري سواء أكان شعبيا أم فصيحا، فأصبح (المدح والهجاء) للإنسان والمكان مقارنا، حتى امتداحنا لأوطاننا غالبا ما يعتمد على المقارنة بأوطان الآخرين.

إننا اليوم أمام نسق ثقافي يزداد أسونا، وتفوح منه روائح منتنة، وقد تدنت حساسيتنا، وانحطت ذوائقنا حين أصبحنا نرتضي اقتران الجميل بالقبيح، والزكي بالنتن، والنفيس بالرخيص، والرفيع بالوضيع، فبالله عليكم ما قيمة أن أرش عطرا فاخرا ثم ألقي في المكان جثة فأر أو قط متعفنة؟ أو العكس حين أدخل مكانا منتنا، وأرش فيه وردا طائفيا؟

يجب أن نرتقي بخطاباتنا إلى درجات عليا من البيان، وأن ننزه ممدوحينا عن المقارنة بالآخرين، سواء أكانت مقارنتنا صائبة أم خاطئة، لأن المقارنة تفيد التقييد في بعض وجوهها، ومن جهة أخرى فلا يليق أن أمدح النبي صلى الله عليه وسلم أو الملك سلمان في خطاب أدبي وبعده مباشرة أهجو شخصيات أخرى بأقذع الألفاظ، فمن التشريف أن أوقر ذكر الممدوح عن مثل هذا، وقس على ذلك الكثير والكثير، فلو استطعنا حقا التخلص من عقدة المقارنة وأفردنا المدح في زجاجات صافية أنيقة، وأفردنا الهجاء في آنيته المناسبة، لكان أقوم وأرحب، فليست دائما (تتمايز بضدها الأشياء)، بل في هذا تشويه وتقييد وإنزال للممدوح في محل لا يليق.

ahmad_helali@