منع التجول.. وإن المصيبات بعض الكرم!
الأحد - 05 أبريل 2020
Sun - 05 Apr 2020
في خمسينات القرن المنصرم، أصيب شاعر العراق الكبير بدر شاكر السياب بمرض السل الرئوي، الذي كان مصنفا كداء عضال آنذاك، ونقل إثر ذلك إلى لندن في عزلة ومنع تجول قسري، جعلاه يراجع أولويات الحياة، فكانت قصيدة (سِفر أيوب) محصلة ذلك الانكفاء القسري على النفس، استهل القصيدة بمطلعها الخالد:
لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبد الألم
لك الحمد إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعض الكرم
ولأن هذه القصيدة استدرجت اللا مألوف في الطبع البشري، وهو اعتبار المصائب والرزايا عطاء وكرما، فإنها بلغت الآفاق في النظم العربي، ومنحت القارئ الفرصة لإعادة التأمل في (مزايا الرزايا)، وتجريدها من السوداوية الحالكة والظلام الدامس!
كوفيد 19 لايختلف عن الجوائح المانعة للحركة التي سبقته وألزمت الناس بيوتهم، بين متأمل للحياة ومهمل لها، البعض وجد هذه الجائحة فرصة لتسديد استحقاقات مختلفة، والبعض الآخر وجدها إجازة اعتيادية لا تقدم كثيرا ولا تضيف مزيدا، وبين هذا وذاك تمايزت الجهود وتنوع الإنجاز واتضح الفرق!
فمن أجمل ما قرأته على صفحات كوفيد 19 اتجاه كثير من أفراد المجتمع نحو المعرفة الالكترونية، سواء في الدراسة النظامية الإلزامية أو من خلال تطوير الذات عبر الدورات عن بعد التي هب كثير من الرائعين لتقديمها مجانا للمتخصصين أو للمجتمع بشكل عام.
لذلك لم أتصور - على الصعيد الشخصي - يوما أنني في خضم التزاماتي الإدارية سأجد وقتا لأنخرط في دورات حول تخصص اللغويات بفروعها المتعددة أراجع فيها ما درسته إبان الابتعاث، ولم أتصور يوما أنني سأجد فسحة من الوقت لألتحق بملتقيات حول إدارة الأزمات والمخاطر من جوانب صحية وتقنية واجتماعية وغيرها كثير!
سمعت البعض يحدثني عن مهارات تعلمها في فترة منع التجول حول الصيانة المنزلية الأساسية، سواء في الكهرباء أو الدهان أو الفك والتركيب للأجهزة والأثاث، وهذه منّة تحمد للعزلة والتقنية معا اللتين أعادتا ترتيب الواجبات المنزلية بشكل يجعل من رب المنزل فنيا ماهرا وحرفيا جيدا لا يتكل على العمالة الوافدة، ولا الفزعات المحفوفة بالمخاطر من مدعي المعرفة من الأصدقاء والأقارب والجيران!
منع التجول منح المبصرين والمتبصرين فرصة كذلك للجلوس مع آل بيتهم، والحديث حول اهتماماتهم وخططهم المستقبلية، منحهم أيضا فرصة لتقاسم الخبرات وقرب المسافات المهدرة حول مستقبل البيت الواحد، وتقسيم المهام ومراجعة المكتسبات الأسرية السابقة والتخطيط للاحقة، أعجبني كثيرا في هذا الإطار ما قرأته أكثر من مرة في تويتر من أمهات يستعرضن نقاشاتهم مع أولادهن، وآباء يسردون مواقف بسيطة حول اتفاقيات ناعمة عقدوها مع أسرهم حول الفروض المنزلية والتوجهات الفكرية والآمال المستقبلية.
منع التجول وإن كان في ظاهره تقييدا للحركة إلا أنه ركض وانطلاق بالفكر والعزيمة نحو خدمة الأوطان، والامتثال للأنظمة والعمل كفرد صالح داخل منظومة البيت الكبير (الوطن)، فهذا يقوم بعمل تطوعي خلف شاشة جهازه، وهذه توصي أقاربها بالتباعد الاجتماعي، وهذا وذاك يؤسسان - بفكر خارج الصندوق - لمرحلة ما بعد المنع، وغيرهم يؤكد أهمية الخروج بدروس مستفادة من هذه الأزمة على الصعيدين الأسري والمجتمعي.
باختصار فإن منع التجول أكد كأي حدث طارئ وقسري أن الإنسان السعودي المنطلق على الحياة والمقبل على البهجة خارج منزله، قادر بالعزم نفسه على الانطلاق من عزلته ليخدم وطنه بفخر، ويكرم أسرته بسعادة، ويحاكي هموم كوكبه باقتدار، بل ويخرج بدروس من هذه العزلة تقدم كخبرة جاهزة للأجيال القادمة لتستفيد منها، وكأنه يخاطب العزلة بتكملة قصيدة السيّاب:
هداياك في خافقي لا تغيب
هداياك مقبولة هاتها!
dralaaraj@
لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبد الألم
لك الحمد إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعض الكرم
ولأن هذه القصيدة استدرجت اللا مألوف في الطبع البشري، وهو اعتبار المصائب والرزايا عطاء وكرما، فإنها بلغت الآفاق في النظم العربي، ومنحت القارئ الفرصة لإعادة التأمل في (مزايا الرزايا)، وتجريدها من السوداوية الحالكة والظلام الدامس!
كوفيد 19 لايختلف عن الجوائح المانعة للحركة التي سبقته وألزمت الناس بيوتهم، بين متأمل للحياة ومهمل لها، البعض وجد هذه الجائحة فرصة لتسديد استحقاقات مختلفة، والبعض الآخر وجدها إجازة اعتيادية لا تقدم كثيرا ولا تضيف مزيدا، وبين هذا وذاك تمايزت الجهود وتنوع الإنجاز واتضح الفرق!
فمن أجمل ما قرأته على صفحات كوفيد 19 اتجاه كثير من أفراد المجتمع نحو المعرفة الالكترونية، سواء في الدراسة النظامية الإلزامية أو من خلال تطوير الذات عبر الدورات عن بعد التي هب كثير من الرائعين لتقديمها مجانا للمتخصصين أو للمجتمع بشكل عام.
لذلك لم أتصور - على الصعيد الشخصي - يوما أنني في خضم التزاماتي الإدارية سأجد وقتا لأنخرط في دورات حول تخصص اللغويات بفروعها المتعددة أراجع فيها ما درسته إبان الابتعاث، ولم أتصور يوما أنني سأجد فسحة من الوقت لألتحق بملتقيات حول إدارة الأزمات والمخاطر من جوانب صحية وتقنية واجتماعية وغيرها كثير!
سمعت البعض يحدثني عن مهارات تعلمها في فترة منع التجول حول الصيانة المنزلية الأساسية، سواء في الكهرباء أو الدهان أو الفك والتركيب للأجهزة والأثاث، وهذه منّة تحمد للعزلة والتقنية معا اللتين أعادتا ترتيب الواجبات المنزلية بشكل يجعل من رب المنزل فنيا ماهرا وحرفيا جيدا لا يتكل على العمالة الوافدة، ولا الفزعات المحفوفة بالمخاطر من مدعي المعرفة من الأصدقاء والأقارب والجيران!
منع التجول منح المبصرين والمتبصرين فرصة كذلك للجلوس مع آل بيتهم، والحديث حول اهتماماتهم وخططهم المستقبلية، منحهم أيضا فرصة لتقاسم الخبرات وقرب المسافات المهدرة حول مستقبل البيت الواحد، وتقسيم المهام ومراجعة المكتسبات الأسرية السابقة والتخطيط للاحقة، أعجبني كثيرا في هذا الإطار ما قرأته أكثر من مرة في تويتر من أمهات يستعرضن نقاشاتهم مع أولادهن، وآباء يسردون مواقف بسيطة حول اتفاقيات ناعمة عقدوها مع أسرهم حول الفروض المنزلية والتوجهات الفكرية والآمال المستقبلية.
منع التجول وإن كان في ظاهره تقييدا للحركة إلا أنه ركض وانطلاق بالفكر والعزيمة نحو خدمة الأوطان، والامتثال للأنظمة والعمل كفرد صالح داخل منظومة البيت الكبير (الوطن)، فهذا يقوم بعمل تطوعي خلف شاشة جهازه، وهذه توصي أقاربها بالتباعد الاجتماعي، وهذا وذاك يؤسسان - بفكر خارج الصندوق - لمرحلة ما بعد المنع، وغيرهم يؤكد أهمية الخروج بدروس مستفادة من هذه الأزمة على الصعيدين الأسري والمجتمعي.
باختصار فإن منع التجول أكد كأي حدث طارئ وقسري أن الإنسان السعودي المنطلق على الحياة والمقبل على البهجة خارج منزله، قادر بالعزم نفسه على الانطلاق من عزلته ليخدم وطنه بفخر، ويكرم أسرته بسعادة، ويحاكي هموم كوكبه باقتدار، بل ويخرج بدروس من هذه العزلة تقدم كخبرة جاهزة للأجيال القادمة لتستفيد منها، وكأنه يخاطب العزلة بتكملة قصيدة السيّاب:
هداياك في خافقي لا تغيب
هداياك مقبولة هاتها!
dralaaraj@