استراتيجيات تصميم الحرم الجامعي.. «ماركة عالمية تعليمية» وبيئة تعليم صحية
السبت - 28 مارس 2020
Sat - 28 Mar 2020
لم يعد اليوم خافيا على أحد أن تطوير مستقبل أي بلد في العالم يرتكز أساسا على مبدا أهمية صناعة «حياة صحية للبيئات التعليمية»، صناعة يوازيها طبعا الانتعاش الاقتصادي والإنتاجية المجتمعية، مما يدعم مجمل مستويات النشاط الذهني والبدني والنفسي للإنسان. ويعتبر هذا الأمر مؤشرا «للدول المنتجة»، إذ إنه الشكل الرئيسي المعترف به عالميا بمقاييس الصحة العامة، حيث تكرس البيئات للعمل على مقاومة وتذليل الأمراض المزمنة كالسمنة وارتفاع ضغط الدم والسكري والقلب. وتوفر البيئة في هذا السياق (حركة) المشي وملحقاتها، وأخريات المزايا ذات الارتباط كالتقليل من الاعتماد على المركبات المتسببة في تلوث الهواء والازدحام المرور.
وإذ نتفق سويا عزيزي القارئ على خصوصية وأهمية مشهد التعليم العالي اليوم كمحرك تنافسي بامتياز، تبذل فيه الجامعات بكلياتها كل ما في وسعها لجلب الطلاب بطريقة مشرقة جذابة، تحث على التعليم والتعلم وتحفز على بناء المستقبل. وفي هذا الخضم نستشف رغبة طلابنا وطالباتنا في أفكار مبتكرة لتصميم مباني كلياتهم الموزعة في جميع أنحاء الحرم الجامعي. وتترسخ رغبتهم هذه بدءا بالفراغات العامة المفتوحة بين عمائرها ومحلاتها السكنية ووسط مطاعمها المغرية ببيئاتها الداخلية، وكذلك عبر مختلف الفصول الدراسية الملهمة، ومجمل مرافق الترفيه والاستجمام الديناميكية المتواجدة في ربوعها.
وأكاد أجزم من هذه الزاوية أن جيل طلابنا يستحق التعايش في بيئات صديقة للتقنية تساعدهم على النجاح أكاديميا، حيث يكونون مع أصدقائهم في قاعات دراسية مريحة وصالات مليئة بوسائل الاستجمام. ولأن هؤلاء الشباب والشابات أصبحوا اليوم في تمام الوعي بأهمية البيئة والتقنيات المحيطة بها، فإنهم يتطلعون إلى ضرورة وجدية احتواء جامعتهم وكليتهم وقاعاتهم الدراسية على كل مقومات «الاستدامة» ومفاهيمها الإطرائية.
وهذا برهان صادق يبرر الاقتناع الجوهري بأن بيئة التعليم الجامعية أصبحت اليوم ذات دور محوري في الأنظمة والمراسيم والخطط والاستراتيجيات التعليمية العالمية الهادفة إلى بيئة تعليم تحفز منسوبي الجامعة وتبني سعادتهم، بيئة مجدية ستنمي حتما القيادات الفعالة التي تولِد تفكيرا حرا يحفز الطلاب ويحثهم على الابتكار.
إذن فهذه المقالة أعزائي القراء ستقدم لكم لمحة سريعة عن التقنيات المبتكرة لتصميم وإصلاح «الحرم الجامعي» أو ما يسمى بالمدينة الجامعية، تقنيات وتصاميم وابتكارات مورست عالميا داخل أروقة هذه المنشآت وقادت أعرق الجامعات العالمية في بلورة البيئة التعليمية لتصنف من أفضل أحرام الجامعات، حيث وصلت بها لتكون في أغلب الأحيان «ماركة عالمية تعليمية». وهذا ما جعل مبتعثينا يتغنون بجامعاتهم التي يدرسون فيها عندما يصفونها لنا، مما يدعونا للبحث فيما جعلها على هذا القدر من الامتياز الوظيفي البيئي والمعماري.
ولذلك لا بد من التنويه هنا إلى أن مشكلات النسيج الحضري لمدننا الجامعية تتأثر بهيمنة استخدام المركبات الخاصة داخل الساحات الأكاديمية الموجودة بالجامعة، وحتى إن لم يكن ذلك، فإن الساحات تغدو فراغات مبهمة سلبية لا تضيف شيئا لجودة الحياة اليومية لمنسوبي الجامعة لا من حيث الاستجمام ولا الرفاه ولا الجاذبية!
فالحدود المادية للحرم الجامعي تمثل عادة الجزء الأكبر من التجربة المكانية لمنسوبي الجامعة (طلابا وأعضاء هيئة التدريس وموظفين وزوار)، حيث تساهم الجودة النوعية للفراغات البيئية على إفراز جودة الحياة الأكاديمية، مما يوجب ضرورة التعامل مع هذه الفراغات بحرص شديد، قصد تجنب المخاطر المدمرة التي من الممكن أن تنتج بسبب إهمالها. فمثلا مواقف السيارات العملاقة تؤثر دائما بالسلب على التماسك الهندسي للنسيج العمراني، وكذلك على جودة حركة المشاة بين مباني الحرم.فما العمل هنا إذن؟
لا مناص لنا في سياق هذا التساؤل من التسليم بأن التقنيات المبتكرة لتصميم وإصلاح الحرم الجامعي هي مجموعة من الأدوات التي تجمع بين مبادئ التصميم العمراني المستدام (التحضر الجديد) وطرق التصميم المعماري بمنهجية النمط الخصوصي المعتمد بالحرم الجامعي. وهذا في حد ذاته يعتبر طريقة ثورية أنتجت مدنا جامعية إنسانية صديقة لمنسوبيها، إذ توفر لهم روح الانشراح والسعادة. ومع كامل الأسف فإن وضع جامعاتنا الآن مصطبغ شكليا (لا معنى إنساني) بالنموذج الصناعي الكئيب الذي يجري تنفيذه في جميع أنحاء العالم في الوقت الحاضر تقريبا بتعلة محاولات إنقاذ أقل ما يقال عنها إنها خالية من كل رؤية موجهة للأساس المرجو.
إن تصميم أي حرم جامعي لا بد أن يحتوي على مجموعة من السمات الإيجابية للروح التاريخية والمكانية المحبوبة لذاكرة المدينة، ويجب أن نستوعب أن الحرم الجامعي هنا يمثل صورة مصغرة حضرية لهذه الاستعارة، مع مساحتها المحدودة داخل نطاق مكاني، وفي الآن نفسه نطاقها الواسع معنا وكيفا في كثير من الأحيان، حيث تكون مليئة بمزيج من الاستخدامات والوظائف التي نحتاجها في المباني المختلفة كالفصول الدراسية ومختبرات الأبحاث والمكتبات وسكن الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، وكذلك «الكافيتريات» والمطاعم المختلفة وأنشطة الطلاب بأنواعها الحركية والحسية - ووظائف الصيانة والإدارة وما إلى ذلك.
كما أن عالم حركة المشاة هو أيضا أمر بالغ الأهمية وهو «قلب جودة المدن»، حيث يجب على الطلاب السير مشيا من مبنى إلى آخر في نطاق نظام حركة له أولويته في التطوير والتخطيط الاستراتيجي للنسيج الحضري للحرم الجامعي، حيث يمثل أهمية مؤرقة لإدارة المرافق بالجامعات. ثم تأتي بعد ذلك حركة المركبات في شكل محور حركة ثانوية تكون عادة حول شبكة مسارات المشاة.
ومن خلال قراءة الأدبيات العلمية للتصميم الحضري عموما يتجلى لنا بوضوح أن المدن الجامعية لا تخرج عن كونها مدينة داخل مدينة، وقد استخرجنا لكم آنفا أن الجامعات الرائدة ذات «الماركة العالمية التعليمية» على مستوى العالم قد ابتكرت استراتيجيات تصميم حضري طويل المدى، سألخصها لكم على نحو أنماط استراتيجية أتمنى أن يستفيد منها القارئ المهتم، وهي كالتالي:
النمط الاستراتيجي الأول
يهتم بـ «الجامعة المفتوحة»، وهي عدم عزل الجامعة عن المدينة بتطويقها بسور، علما أن استراتيجية التطوير هي ربط جانب واحد على الأقل من أطراف الحرم الجامعي بالجزء المجاور من المدينة المجاورة إن أمكن ذلك.
النمط الاستراتيجي الثاني
يهتم بـ «التشكيل الفعلي للجامعة وقطرها»، وهو وضع الفصول الدراسية داخل دائرة قطرها نصف كيلومتر يضم في أرجائه الأنشطة غير الصفية مثل الإدارات والمراكز الرياضية، والمكاتب والمطاعم والصالات الدراسية.
النمط الاستراتيجي الثالث
يهتم بـ «أماكن وتوزيع سكن الطلاب»، وهو تفعيل الحياة داخل الحرم الجامعي من خلال تحديد موقع سكن الطلاب في وسط الحرم الجامعي، وبنسب مختلفة داخل وخارج قطر دائرة النصف كيلومتر، والباقي خارج قطر الدائرة على مساحة أقصاها كيلومتر واحد من القلب المركزي للحرم الجامعي.
النمط الاستراتيجي الرابع
يهتم بـ «حركة النقل المحلية» شديدة الأهمية، بمعنى إعطاء أولوية لتدفق حركة المشاة على أن تكون شبكة المشاة صديقة للمشائين داخل القلب المركزي للحرم الجامعي، وبصفة موازية يجب أن تصاغ حركة المركبات بالسير البطيء والحركة والدائرية والابتعاد عن محاور المركبات ذات الخطية الطويلة المستقيمة.
النمط الاستراتيجي الخامس
يهتم بـ «التنظيم التعددي الوظائف» المهم جدا، الخروج والابتعاد عن هوس التنظيم أحادي الوظيفة. كأن تجمع مساكن الطلاب في الحرم الجامعي على تكتل واحد مجمع وليس له ارتباط بالوظائف النوعية والكليات وغيرها. ومن المظاهر الأخرى الاهتمام بوضع جميع الوظائف الإدارية في مبنى واحد مهيب، وبذلك ينتج التبويب الوظيفي لبيئة تعليمية مثالية لا تكرس بأي حال من الأحوال مسألة الخلط والدمج.
النمط الاستراتيجي السادس
يهتم بـ «نسيج يربط الأقسام الأكاديمية» إذا كان ذلك ممكنا، ويعتبر ابتكارا استراتيجيا، في حين أن كل قسم أكاديمي يجب أن تكون له قاعدة توسعية، بمعنى أن تكون الأقسام بالكليات قادرة على الانتشار في المباني الأخرى والتشابك مع الأقسام الباقية.
ماذا يعني هذا؟
إن الوضع الراهن لجامعاتنا أشبه بالنسيج الحضري المبهم المفكك والمنفعل - رغم الاجتهادات المخلصة. ولكن في غياب البوصلة التي أجزمت في أطرها جميع المشاريع العالمية والدراسات بأن الحرم الجامعي يعطي دائما الأولوية المطلقة لشبكة مشاة مفعمة بالأنشطة الحيوية والحياة العملية، التي تشكل شبكة الربط بالفراغات العامة المفتوحة وعناصرها الحامية من مرور حركة المركبات والمحاطة بالمقاهي الصغيرة الموفرة لبيئة الاستذكار والمطاعم الخفيفة مختلفة الأذواق، بحيث توفر جودة حياة أكاديمية صحية متصلة ومتكاملة بين الحرم الجامعي والمدينة من أحد أطرافها الخارجية، علما أن هذه الجودة وهذه النوعية التصميمية الخاصة بالحرم الجامعي هي إحدى المتطلبات الأساسية التي من المفروض أن تتضمنها «إسكتشات» وتصاميم ومفاهيم الريادة الهادفة لصناعة قصة الحياة اليومية لمنسوبي الجامعة ضمن بيئة تعليمية بحثية مثالية.
نختم هنا بالقول إن الممارسة القياسية للمصمم الحضري من خلال عدم الفصل بين الأقسام الأكاديمية والمباني، هي منهج عملي له تأثير كبير على التشكيل الفعلي للنسيج الحضري للمدينة الجامعية، وبالتالي على جودة حياة اليومية لمنسوبي الجامعة الأكاديمية.وسوف نختصر شرحا مبسطا لإحدى هذه الممارسات القياسية التي لا حصر لها في الجامعات الريادية، وذلك كما يلي:
لنفترض أن «قسم الفيزياء» عبارة عن مبنى مستقل بمختبراته ومكاتبه وقد تم رصد ميزانية لبنائه، وإثر ذلك وبتمدد وقت انتقاله إلى مكاتبه ومختبراته الجديدة لأسباب لوجستية ومعوقات مختلفة لم يقع التحسب لها مسبقا، يجري هذا الانتقال مثلا خلال خمس أو عشر أو عشرين سنة، يكون قد نما فيها المبنى أو تقلص في الحجم، بالتالي فإن سعة المبنى لم تعد تناسب القسم بتاتا. فمن الجهل بأبسط مكنونات الأمور التوقع بأن سعة المبنى ستكون إلى الأبد كما هي، وأن يتم التحويل إلى مبنى جديد!
ما الذي صنعته جامعة ولاية أوريغون في هذا السياق إلا استراتيجية مبكرة اعتمدت منهجية «المنطق في التصميم» الذي يربط المبنى بالمباني المجاورة منذ اليوم الأول، بدلا من جعله منفصلا كي تستوعبه المباني الأخرى.
@dradelzahrani
وإذ نتفق سويا عزيزي القارئ على خصوصية وأهمية مشهد التعليم العالي اليوم كمحرك تنافسي بامتياز، تبذل فيه الجامعات بكلياتها كل ما في وسعها لجلب الطلاب بطريقة مشرقة جذابة، تحث على التعليم والتعلم وتحفز على بناء المستقبل. وفي هذا الخضم نستشف رغبة طلابنا وطالباتنا في أفكار مبتكرة لتصميم مباني كلياتهم الموزعة في جميع أنحاء الحرم الجامعي. وتترسخ رغبتهم هذه بدءا بالفراغات العامة المفتوحة بين عمائرها ومحلاتها السكنية ووسط مطاعمها المغرية ببيئاتها الداخلية، وكذلك عبر مختلف الفصول الدراسية الملهمة، ومجمل مرافق الترفيه والاستجمام الديناميكية المتواجدة في ربوعها.
وأكاد أجزم من هذه الزاوية أن جيل طلابنا يستحق التعايش في بيئات صديقة للتقنية تساعدهم على النجاح أكاديميا، حيث يكونون مع أصدقائهم في قاعات دراسية مريحة وصالات مليئة بوسائل الاستجمام. ولأن هؤلاء الشباب والشابات أصبحوا اليوم في تمام الوعي بأهمية البيئة والتقنيات المحيطة بها، فإنهم يتطلعون إلى ضرورة وجدية احتواء جامعتهم وكليتهم وقاعاتهم الدراسية على كل مقومات «الاستدامة» ومفاهيمها الإطرائية.
وهذا برهان صادق يبرر الاقتناع الجوهري بأن بيئة التعليم الجامعية أصبحت اليوم ذات دور محوري في الأنظمة والمراسيم والخطط والاستراتيجيات التعليمية العالمية الهادفة إلى بيئة تعليم تحفز منسوبي الجامعة وتبني سعادتهم، بيئة مجدية ستنمي حتما القيادات الفعالة التي تولِد تفكيرا حرا يحفز الطلاب ويحثهم على الابتكار.
إذن فهذه المقالة أعزائي القراء ستقدم لكم لمحة سريعة عن التقنيات المبتكرة لتصميم وإصلاح «الحرم الجامعي» أو ما يسمى بالمدينة الجامعية، تقنيات وتصاميم وابتكارات مورست عالميا داخل أروقة هذه المنشآت وقادت أعرق الجامعات العالمية في بلورة البيئة التعليمية لتصنف من أفضل أحرام الجامعات، حيث وصلت بها لتكون في أغلب الأحيان «ماركة عالمية تعليمية». وهذا ما جعل مبتعثينا يتغنون بجامعاتهم التي يدرسون فيها عندما يصفونها لنا، مما يدعونا للبحث فيما جعلها على هذا القدر من الامتياز الوظيفي البيئي والمعماري.
ولذلك لا بد من التنويه هنا إلى أن مشكلات النسيج الحضري لمدننا الجامعية تتأثر بهيمنة استخدام المركبات الخاصة داخل الساحات الأكاديمية الموجودة بالجامعة، وحتى إن لم يكن ذلك، فإن الساحات تغدو فراغات مبهمة سلبية لا تضيف شيئا لجودة الحياة اليومية لمنسوبي الجامعة لا من حيث الاستجمام ولا الرفاه ولا الجاذبية!
فالحدود المادية للحرم الجامعي تمثل عادة الجزء الأكبر من التجربة المكانية لمنسوبي الجامعة (طلابا وأعضاء هيئة التدريس وموظفين وزوار)، حيث تساهم الجودة النوعية للفراغات البيئية على إفراز جودة الحياة الأكاديمية، مما يوجب ضرورة التعامل مع هذه الفراغات بحرص شديد، قصد تجنب المخاطر المدمرة التي من الممكن أن تنتج بسبب إهمالها. فمثلا مواقف السيارات العملاقة تؤثر دائما بالسلب على التماسك الهندسي للنسيج العمراني، وكذلك على جودة حركة المشاة بين مباني الحرم.فما العمل هنا إذن؟
لا مناص لنا في سياق هذا التساؤل من التسليم بأن التقنيات المبتكرة لتصميم وإصلاح الحرم الجامعي هي مجموعة من الأدوات التي تجمع بين مبادئ التصميم العمراني المستدام (التحضر الجديد) وطرق التصميم المعماري بمنهجية النمط الخصوصي المعتمد بالحرم الجامعي. وهذا في حد ذاته يعتبر طريقة ثورية أنتجت مدنا جامعية إنسانية صديقة لمنسوبيها، إذ توفر لهم روح الانشراح والسعادة. ومع كامل الأسف فإن وضع جامعاتنا الآن مصطبغ شكليا (لا معنى إنساني) بالنموذج الصناعي الكئيب الذي يجري تنفيذه في جميع أنحاء العالم في الوقت الحاضر تقريبا بتعلة محاولات إنقاذ أقل ما يقال عنها إنها خالية من كل رؤية موجهة للأساس المرجو.
إن تصميم أي حرم جامعي لا بد أن يحتوي على مجموعة من السمات الإيجابية للروح التاريخية والمكانية المحبوبة لذاكرة المدينة، ويجب أن نستوعب أن الحرم الجامعي هنا يمثل صورة مصغرة حضرية لهذه الاستعارة، مع مساحتها المحدودة داخل نطاق مكاني، وفي الآن نفسه نطاقها الواسع معنا وكيفا في كثير من الأحيان، حيث تكون مليئة بمزيج من الاستخدامات والوظائف التي نحتاجها في المباني المختلفة كالفصول الدراسية ومختبرات الأبحاث والمكتبات وسكن الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، وكذلك «الكافيتريات» والمطاعم المختلفة وأنشطة الطلاب بأنواعها الحركية والحسية - ووظائف الصيانة والإدارة وما إلى ذلك.
كما أن عالم حركة المشاة هو أيضا أمر بالغ الأهمية وهو «قلب جودة المدن»، حيث يجب على الطلاب السير مشيا من مبنى إلى آخر في نطاق نظام حركة له أولويته في التطوير والتخطيط الاستراتيجي للنسيج الحضري للحرم الجامعي، حيث يمثل أهمية مؤرقة لإدارة المرافق بالجامعات. ثم تأتي بعد ذلك حركة المركبات في شكل محور حركة ثانوية تكون عادة حول شبكة مسارات المشاة.
ومن خلال قراءة الأدبيات العلمية للتصميم الحضري عموما يتجلى لنا بوضوح أن المدن الجامعية لا تخرج عن كونها مدينة داخل مدينة، وقد استخرجنا لكم آنفا أن الجامعات الرائدة ذات «الماركة العالمية التعليمية» على مستوى العالم قد ابتكرت استراتيجيات تصميم حضري طويل المدى، سألخصها لكم على نحو أنماط استراتيجية أتمنى أن يستفيد منها القارئ المهتم، وهي كالتالي:
النمط الاستراتيجي الأول
يهتم بـ «الجامعة المفتوحة»، وهي عدم عزل الجامعة عن المدينة بتطويقها بسور، علما أن استراتيجية التطوير هي ربط جانب واحد على الأقل من أطراف الحرم الجامعي بالجزء المجاور من المدينة المجاورة إن أمكن ذلك.
النمط الاستراتيجي الثاني
يهتم بـ «التشكيل الفعلي للجامعة وقطرها»، وهو وضع الفصول الدراسية داخل دائرة قطرها نصف كيلومتر يضم في أرجائه الأنشطة غير الصفية مثل الإدارات والمراكز الرياضية، والمكاتب والمطاعم والصالات الدراسية.
النمط الاستراتيجي الثالث
يهتم بـ «أماكن وتوزيع سكن الطلاب»، وهو تفعيل الحياة داخل الحرم الجامعي من خلال تحديد موقع سكن الطلاب في وسط الحرم الجامعي، وبنسب مختلفة داخل وخارج قطر دائرة النصف كيلومتر، والباقي خارج قطر الدائرة على مساحة أقصاها كيلومتر واحد من القلب المركزي للحرم الجامعي.
النمط الاستراتيجي الرابع
يهتم بـ «حركة النقل المحلية» شديدة الأهمية، بمعنى إعطاء أولوية لتدفق حركة المشاة على أن تكون شبكة المشاة صديقة للمشائين داخل القلب المركزي للحرم الجامعي، وبصفة موازية يجب أن تصاغ حركة المركبات بالسير البطيء والحركة والدائرية والابتعاد عن محاور المركبات ذات الخطية الطويلة المستقيمة.
النمط الاستراتيجي الخامس
يهتم بـ «التنظيم التعددي الوظائف» المهم جدا، الخروج والابتعاد عن هوس التنظيم أحادي الوظيفة. كأن تجمع مساكن الطلاب في الحرم الجامعي على تكتل واحد مجمع وليس له ارتباط بالوظائف النوعية والكليات وغيرها. ومن المظاهر الأخرى الاهتمام بوضع جميع الوظائف الإدارية في مبنى واحد مهيب، وبذلك ينتج التبويب الوظيفي لبيئة تعليمية مثالية لا تكرس بأي حال من الأحوال مسألة الخلط والدمج.
النمط الاستراتيجي السادس
يهتم بـ «نسيج يربط الأقسام الأكاديمية» إذا كان ذلك ممكنا، ويعتبر ابتكارا استراتيجيا، في حين أن كل قسم أكاديمي يجب أن تكون له قاعدة توسعية، بمعنى أن تكون الأقسام بالكليات قادرة على الانتشار في المباني الأخرى والتشابك مع الأقسام الباقية.
ماذا يعني هذا؟
إن الوضع الراهن لجامعاتنا أشبه بالنسيج الحضري المبهم المفكك والمنفعل - رغم الاجتهادات المخلصة. ولكن في غياب البوصلة التي أجزمت في أطرها جميع المشاريع العالمية والدراسات بأن الحرم الجامعي يعطي دائما الأولوية المطلقة لشبكة مشاة مفعمة بالأنشطة الحيوية والحياة العملية، التي تشكل شبكة الربط بالفراغات العامة المفتوحة وعناصرها الحامية من مرور حركة المركبات والمحاطة بالمقاهي الصغيرة الموفرة لبيئة الاستذكار والمطاعم الخفيفة مختلفة الأذواق، بحيث توفر جودة حياة أكاديمية صحية متصلة ومتكاملة بين الحرم الجامعي والمدينة من أحد أطرافها الخارجية، علما أن هذه الجودة وهذه النوعية التصميمية الخاصة بالحرم الجامعي هي إحدى المتطلبات الأساسية التي من المفروض أن تتضمنها «إسكتشات» وتصاميم ومفاهيم الريادة الهادفة لصناعة قصة الحياة اليومية لمنسوبي الجامعة ضمن بيئة تعليمية بحثية مثالية.
نختم هنا بالقول إن الممارسة القياسية للمصمم الحضري من خلال عدم الفصل بين الأقسام الأكاديمية والمباني، هي منهج عملي له تأثير كبير على التشكيل الفعلي للنسيج الحضري للمدينة الجامعية، وبالتالي على جودة حياة اليومية لمنسوبي الجامعة الأكاديمية.وسوف نختصر شرحا مبسطا لإحدى هذه الممارسات القياسية التي لا حصر لها في الجامعات الريادية، وذلك كما يلي:
لنفترض أن «قسم الفيزياء» عبارة عن مبنى مستقل بمختبراته ومكاتبه وقد تم رصد ميزانية لبنائه، وإثر ذلك وبتمدد وقت انتقاله إلى مكاتبه ومختبراته الجديدة لأسباب لوجستية ومعوقات مختلفة لم يقع التحسب لها مسبقا، يجري هذا الانتقال مثلا خلال خمس أو عشر أو عشرين سنة، يكون قد نما فيها المبنى أو تقلص في الحجم، بالتالي فإن سعة المبنى لم تعد تناسب القسم بتاتا. فمن الجهل بأبسط مكنونات الأمور التوقع بأن سعة المبنى ستكون إلى الأبد كما هي، وأن يتم التحويل إلى مبنى جديد!
ما الذي صنعته جامعة ولاية أوريغون في هذا السياق إلا استراتيجية مبكرة اعتمدت منهجية «المنطق في التصميم» الذي يربط المبنى بالمباني المجاورة منذ اليوم الأول، بدلا من جعله منفصلا كي تستوعبه المباني الأخرى.
@dradelzahrani