علي المطوع

السلم المجتمعي في عسير

الأحد - 15 مارس 2020

Sun - 15 Mar 2020

في ليلة فارقة مبهجة دشنت عسير بكل تنوعها الجميل بين السهل والجبل، مشروع السلم المجتمعي الذي كان ركيزته ذلك المساء إعلان تكوين تلك اللجنة المعنية بهذا المفهوم الاجتماعي المهم والخطير، كل ذلك كان برعاية الأمير تركي بن طلال أمير المنطقة، وبحضور شخصيات فكرية مرموقة كان لها في هذه التظاهرة بصمة جميلة زادت من ألق المناسبة وقيمتها ورسوخها في وجدان الأهالي والحاضرين.

لن أسهب في السلم المجتمعي تعريفا وضرورة وتأصيلا وعرفا لأن هذا ليس مجاله، لكنني سأحاول أن أقترب من بعض المفاهيم المغلوطة التي استدعت أمير عسير ونخبها واستعجلتهم في تدشين هذه اللجنة، وتبيان ما يراد منها وما يراد لها.

من المعروف أن منطقة عسير، وعاصمتها أبها، كان لها مع المدنية والتحضر صور معروفة، والتمدن هنا ليس المقصود منه حضارة مادية بالغة الترف والتمكين، بل إشارات ومؤشرات تؤكد أن هذه المنطقة وفي أزمان مبكرة كان لها شواهد حضارية مضيئة تتجاوز الحياة الريفية من رعي وزراعة بمراحل حياتية كثيرة، فالمنطقة عرفت نوعا من التصالح بين قبائلها ومكوناتها، وهذا أفرز مجموعة من الأعراف والشيم والقيم، ما زالت تستحضر في مخيال إنسان المنطقة، وهذا ما يفسر محاولة المجتمع أفرادا وجماعات المحافظة عليها وبعث ما اندثر منها من جديد، في صور من التعاون والحب والنقاء.

في زمن قديم كان الناس يتآلفون ويتعايشون وفق منظومة الأعراف والقيم التي تشكلت لديهم من الدين أولا، ثم وفق ما استجد من صور الحياة وضرورات التعايش معها، وكانت كل هذه الأشياء في مجملها، تضمن انسيابية الحياة واستمرارها صورا جميلة كانت تعكس سلما اجتماعيا في أجلى صوره وأسمى معانيه، فديات الدم - كصورة من صور التكافل الاجتماعي - كانت توزع على أفراد القبيلة بناء على قوانين واضحة عادلة وصادقة، فالغني ليس كالفقير في تحمل هذا العبء المادي الطارئ، وكانت الملاءة المالية بمقاييسها في ذلك الزمن هي ما تحدد المعايير والفئات وما يتوجب عليها دفعه لتحمل تكاليف هذا الدم.

ولا تقتصر صور التعاون على الديات فحسب، فكان هناك ما يعرف بالغُداة، وهي حالة من النفير العام ينتاب القبيلة لمساعدة أحد أفرادها، في بناء أو حصاد أو إصلاح خراب طارئ، يكون ذلك بلا مقابل مادي، ويعتبر المتخلي عن هذا النداء قد ارتكب فعلا يعيبه المجتمع وأفراده، وربما يكلفه (بُرهة) من القبيلة، وهي تعني تكليفه بذبح ذبيحة جراء عدم إجابته لداعي القبيلة.

تلك صورة أخرى من صور التلاحم والتعاون بين الناس، وهذا ساهم في إقرار وإحلال سلم مجتمعي قوامه التعاون وسد الحاجات عند الجميع وضمان استمراره من خلال بعض العادات والتقاليد التي ساهمت في الحفاظ عليه، وجعله صورة من صور القوانين المدنية اليوم، إذا جاز التعبير.

اليوم هناك أوضاع متغيرة، ومفاهيم مرتبكة، وأعراف حملت ما لا تحتمل، من ذلك المبالغات في الديات والأعطيات، وهذا شكل سوقا سوداء يقتات عليها أناس يتمظهرون بالصلاح والنخوة والمروءة، وهم بأفعالهم أبعد ما يكونون عن هذه الصفات، لذلك بادر أمير عسير باستحداث لجنة لإرساء سلم مجتمعي، سلم موجود أصلا في شخصية الفرد وتكوين القبيلة، ولكن بعض المظاهر المستحدثة صادرته وجعلته مجرد شعارات كلامية، تخفي وقائع حياتية مؤلمة من التجاوزات التي ليست من العدالة الاجتماعية في شيء.

لجنة السلم المجتمعي بادرة سباقة، ولتفعيلها كواقع داخل القبيلة تحتاج - من وجهة نظري - إلى أمور عدة أهمها:

-01 تغيير بعض المفاهيم المستحدثة والخاطئة في القبيلة التي تتمظهر بالإيجابية المزيفة، وتعريتها أمام المجتمع، من خلال المواقف المشرفة المضادة والندوات واللقاءات ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة.

-02 التواصل مع مجالس القبائل التي استحدثت حديثا، وتجسير علاقة تكاملية تخدم أهداف اللجنة وتطلعاتها وما ترنو إليه من إصلاح.

-03 تشكيل لجان فرعية بالمسمى نفسه داخل القبائل ويكون لها ضابط اتصال مع اللجنة الأم لموافاة اللجنة بالمستجدات التي تمس المفهوم وشواهده الحية.

-04 مجالس القبائل يجب أن يعاد تشكيلها من خلال كبار القبيلة ووجهائها، وفق ما استجد على الساحة من تغيرات، من خلال الدفع بطاقات شبابية متعلمة خبيرة تستطيع صنع الفارق للفكرة والمجتمع.

-05 العمل على رفع تقارير دورية شفافة وصريحة تتضمن معلومات دقيقة عن كل ما يتعلق بهذه المظاهر الخاطئة وعددها وطبيعتها وظرفها العابر أو المستوطن الذي نشأت فيه، لتجري دراستها من قبل الإمارة وبعض الجهات التي يمكن لها إضافة أبعاد إصلاحية لاحقة يعم نفعها المجتمع، وتحد من ظواهر النشاز والخطأ.

أخيرا يجب أن نؤكد ونتذكر ونذكر، بأن القبيلة يجب أن تظل رتبة في سلم التعريف بالمواطن السعودي، وليست منتهى الهوية أو قمة التصنيف للتعريف أو الإقصاء، كما يفعل بعض الجهلاء والدخلاء ممن شوه هذه القيمة المجتمعية، ولذلك يجب على المجتمع بنخبه الاجتماعية ومثقفيه ومؤسساته معالجة هذا الإشكال، وإعادة بعض مفاهيم القبيلة المختطفة والمقولبة، إلى سياقاتها الاجتماعية الصحيحة، كقيمة سامية ترسخ مفاهيم السلم المجتمعي، وتنقيتها من كل صوت نشاز يحاول اختزالها في شعارات جوفاء تبعث على الفرقة والتكسب وظلم ذوي القربى من الضعفاء والمحتاجين.

@alaseery2