ياسر عمر سندي

صندوق النقد

الأربعاء - 26 فبراير 2020

Wed - 26 Feb 2020

نحتاج دوما في عالمنا الذي نعيشه ونتعايش مع ظروفه المحيطة الموصوف بالمتقلبة والمتغيرة والمتذبذبة بين كفتي الربح والخسارة؛ إلى ضابط يقيس لنا مدى الحجم في النفقات وما يقابله من حجم في الإيرادات، وبالمقارنة بين هذين الحجمين الكبيرين نتطلب كثيرا من التوازن مع إضافة كثير من الثقة والثبات والوعي لمواجهة عديد من الصدمات في أي وقت من الأوقات لتعبئة هذا الحيز الكبير الذي أتحدث عنه.

عندما أشير في محور حديثي إلى بادئ الأمر لصندوق النقد أستشعر بما سيتوارد إلى أذهان كثيرين، بأن ما أقصده في المقال هو صندوق النقد المعني بنظام المدفوعات وأسعار صرف العملات، والذي يسمح بإجراء المعاملات التجارية المختلفة، تلافيا لوقوع الأزمات بالاعتماد على السياسات الاقتصادية السليمة، من خلال التمويل والإقراض بغرض تحقيق النمو المتوازن، والاستقرار في أسعار الصرف، وإجراء التصحيحات المتلاحقة جراء الإخفاقات السياسية التي تؤدي إلى العجز في الميزان العام لأي دولة.

قد يتقارب المصطلح في شكله، ولكنه يتباعد فيما أقصده، فصندوق النقد الخاص بي وما أنادي به دائما وأبدا هو الخزنة التي أمتلكها أنا وأنت وهو وهي، وهو ذلك الصندوق الوهمي القابع في عقولنا ودواخلنا البشرية وصورنا الذهنية وتصوراتنا النفسية، وما يحتوي عليه من الرصيد النقدي لأي شخص، والنقد هنا أعني به كمية اللوم التصحيحية بطريقة صحية، والتي يسمح بها المتخصصون بعلم النفس والاجتماع، وبجرعات متفاوتة للتقييم الدوري المتتابع من حيث المكانة والمرتبة الأخلاقية التي وصل إليها الإنسان تجاه غيره، وتقويم الاعوجاج لأي انحراف قد يطرأ للنفس البشرية، وكيفية تعامل الآخرين أيضا معنا من حيث الأسلوب والسلوك والتقدير بجميع أشكاله اللفظية والعملية والإيمائية.

ومن وجهة نظري السلوكية والمعرفية طرحت هذا المصطلح وهو «صندوق النقد»، الذي نمتلكه لعمل المراجعة المتكررة ومواجهة أنفسنا والآخرين، مع البعد عن التجريح والتلميح بما قد يسيء إليهم، وتفعيل ثقافة النقد الراقي الذي يؤلف القلوب ولا يقطع الدروب، فمن الأمور التي أقسم بها الخالق جل وعلا هي النفس اللوامة كما قال في محكم تنزيله (ولا أقسم بالنفس اللوامة) سورة القيامة الآية 2، والأنفس في خلقها ثلاثة، وهي: النفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة والنفس المطمئنة، فإذا أصرت النفس على تجاوز حدودها استوجب ذلك على صاحبها أن ينقدها ويلومها حتى تنصرف وتطهر وتطمئن بسلوكها المسلك القويم والنهج السليم.

فالنقد في معناه اللغوي هو التفريق بين الجيد وما دون ذلك، ببث ما في النفس إما مكتوبا أو منطوقا بغرض الوصول إلى تجويد الأمر، والحصيلة النقدية التي نمتلكها تحتاج إلى تركيز وتفحيص وتمحيص، فعند إطلاقنا الرسائل النقدية للذات أثناء خطئها يعد ذلك تصحيحا لها، ولكن إذا زاد ذلك النقد عن معدله الطبيعي ينتج عنه أمراض تصيب النفس كالوسوسة القهرية والإحباط، كمن يريد الوصول إلى الكمال في كل أموره ونسي أو تناسى أن المخلوق مفطور على الخطأ والنسيان.

وكذلك الأمر مع الآخرين، خاصة المقربين، كالزوجة والأبناء وذوي القربي والأصدقاء؛ في الكلام معهم أو الكتابة إليهم، فإذا تعدى النقد درجاته المسموح بها يصبح عتابا قاسيا لا تحمد عقباه، وقد يؤول الأمر إلى قطع العلاقات وتشويه الصِلات.

فصندوق النقد أنصح بتأسيسه على معرفة وإدراك وفهم ذاتي ومجتمعي عميق، مع حصيلة وفيرة من الذكاء الاجتماعي والعاطفي، ليساعدنا على تنمية الوعي وتنشيطه بما نملكه من مساحة تخزين ذاتية نستثمرها في دعم النفس لترتقي درجات الاطمئنان، وإمدادها بما تحتاجه من ثروات تصحيحية لسد العجز جراء الإخفاقات البشرية، وعمل الموازنة التقديرية لتحقيق المكاسب الجوهرية، والبعد عن الخسائر في النفقات والإيرادات المعنوية في تجارتنا السلوكية مع أنفسنا والآخرين.

@Yos123Omar