مرزوق تنباك

النبش في طوايا التراث

الثلاثاء - 04 فبراير 2020

Tue - 04 Feb 2020

الموروث أو التراث إن شئتم جزء من ذاكرة الماضي في كل ما فيه من جميل يفخر به أهل التراث ويتلذذون بذكره ويحافظون عليه، وبعضه أو أكثره انتهى العمل به ولم يبق له قيمة تذكر، غير أنه يحكي تاريخ الماضي المحبب إلى النفوس الحديث عنه وتبجيله.

والذين يهمهم أمر التراث ينقسمون على ثلاثة أقسام، قسم يرى أن القدم والزمن يضفيان على التراث جلالا وهيبة وقيمة معنوية تصل به إلى حد الغرام وتقديس عشاق التراث لكل ما سلف، وهو رأي له أنصاره والمدافعون عنه.

وقسم يرى أن التراث ماض بخيره وشره، وإذا كان له من قيمة ففي العبرة والموعظة واختلاف الأحوال وتبدل الأحداث، ولا شيء غير ذلك. ولكل من القسمين وجهة نظر يمكن قبولها والدفاع عنها من الناحيتين العلمية والعملية، ويمكن الخلاف حولها ومناقشة دلالتها.

أما القسم الثالث فهم الذين يعمدون إلى نخل التراث وتصنيفه وتصنيف رجاله، وانتقاء ما يروق لهم أو يخدم غرضا من أغراضهم بما يحمل من الأعمال والأفكار، ويعرضون ذلك على أهوائهم وتصنيفاتهم التي يعتقدونها ويدعون إليها في الحاضر، وكأنهم يعيشون في ذلك الماضي مع اختلاف السنين والأحداث التي أنتجته وحكمت له أو عليه.

وقد أصاب التراث الثقافي والفكري والأدبي للأمة من هؤلاء المنقبين في طوايا التراث ومن توجهاتهم تلوث للفهم الصحيح، وسبب ذلك الأدلجة الحديثة التي جدت في العصر الحاضر ولم تكن معهودة من قبل.

فقد كانت الأجيال في الماضي تقرأ التراث بسلامة النية، وتبجل منتجيه وتظهر الإعجاب بهم وبما قدموا من علوم، حتى جاءت هذه النابتة فشوشت الأذهان وبلبلت الأفكار وخلطت الحق بالباطل والصحيح بالخطأ، فأصبح المرء لا يقرأ لأحد من أعلام الأمة في ماضيها كله أو في حاضرها إلا ويثور الشك أو قل السؤال عمن ساهم في صناعة التراث، عن رأيه في الدين وعقيدته ومن أي طائفة هو، ليصنفه في جماعة ما أو يخرجه من أخرى، بينما كان الناس في القديم يقرؤون للجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وابن قتيبة ويفاخرون بالرازي وابن سيناء وجابر بن حيان ومئات غيرهم، وهم سليمو البال مطمئنون إلى الماضي الفكري الرائع الذي أنتجه هؤلاء في التراث كله.

أما بعض قراء التراث العربي المعاصرين فلا يقرؤون التراث القديم إلا والشك لا يفارقهم، والسؤال عالق في أذهانهم حول ما يقرؤون وحول من أنتج هذه المعارف من الأولين، وكل ذلك بفضل دعاة المذهبية والتصنيف الذين يبحثون في النيات والعقائد، والمضمرات القلبية والمقاصد الخفية التي ينهى الإسلام عنها وعن الحكم على

الناس في خافي أمورهم ومعتقداتهم، وقد أصبح بعض أعلام الفكر العربي مكروهين لدى المعاصرين، وكل ذلك يحدث بفضل التصنيف مذهبيا لهم.

تصور لو طلب من كاتب أو باحث في التاريخ الأدبي أو التاريخ السياسي والفكري ألا ينقل عن أحد من سلف الأمة إلا بعد أن يتحقق من مذهبه وعقيدته ورأيه الذي يرى، كم ستكون الرزية على الناس؟ وكم ستكون المصيبة على التاريخ والتراث؟ وكم ستكون الخسارة والحرمان عندما نعرض أفكار الماضين والمعاصرين على مقياس واحد ولا نقبل غيره؟

إن شمول التراث وعمومه وارتقاءه يجب أن تكون فوق التصنيفات، وأن تفتح مجالات التجديد فيه، وألا نحاكم التاريخ الماضي على الحاضر، لأن للماضي ظروفه التي أنتجت التراث وحكمت له أو عليه، أما الحاضر فإن له غير ما كان للماضي، والمقارنة بين الماضي البعيد والحاضر المختلف مقارنة مع الفارق الكبير في كل شيء، والقياس بينهما يكون مجحفا على أي مذهب ذهب.

Mtenback@