عبدالحليم البراك

ليعود الناس للناس!

الاثنين - 27 يناير 2020

Mon - 27 Jan 2020

في حوار مع أحد مدربي القادة، وهو يشير إلى أن أواصر الحديث بين الناس قد تقطعت بسبب الهاتف الجوال، وأدانت المجموعة هذا الجهاز الصغير الذي أفسد علاقات الناس، حتى إن القادة والمديرين فشلوا في التعرف على زملائهم في بيئة العمل، بسبب أن أي وقت فراغ لا يقضيه الموظف مع زميله، بل يقضيه بصحبة مجتمعه التواصلي الافتراضي على الهاتف المحمول؛ في لحظة ما جاء سؤال مباغت: هل العيب في الجوال أم في الإنسان الذي صنع الجوال أو تعامل معه؟ بعد ثوان من الصدمة و التفكير، جاء الجواب منطقيا: العيب كل العيب في الإنسان الذي سمح لهذه الآلة أن تمنع الحديث مع الناس، فكيف يعود الناس للناس، ويتحدث بعضهم مع بعض، بدلا من هذه القطيعة الاجتماعية وسط ازدحام جسدي؟

إن كنت تريد أن تتحدث مع الناس فدع التحدث بالجوال، ونظم علاقتك مع هذا الجهاز الصغير، واضرب لك قاعدة (ساعة لجوالك وساعة لأصدقائك، ساعة لجوالك والناس الافتراضية فيه وساعة لنفسك والناس الحقيقية حولك)، فعطل جوالك لمدة ساعة تقابلها ساعة أخرى تستجيب لمتطلبات التواصل، حتى ما تود أن تبحث عنه في قوقل على سبيل المثال ضعه في ورقة حتى لا تنساه، ثم ابحث لاحقا في الساعة المخصصة للجوال، وليس في الساعة المخصصة لأبنائك أو بيتك أو أصدقائك أو قيادة سيارتك أو المخصصة للناس!

تعلم أن تخرج دون جوالك، أو أن تدخل مجلسا وهاتفك في بيتك أو في مكان آمن في سيارتك بعد أن تغلق السيارة جيدا، أو أن تطفئ الجوال مدة ساعة للتواصل مع من حولك لمدة ساعة، ويمكن تنظيم هذه العملية بحجة شحن الجوال، فلا تشحن جوالك إلا إذا رغبت في الحديث مع الناس، أو دع جوالك تنتهي بطاريته حتى تتعلم أن تعيش دونه لتعيش مع الناس.

اختر أماكن الحديث مع الناس، ففي صالة المطار فرصة للحديث مع الناس، وفي مقعد الطائرة فرصة للحديث مع الناس، ولا أود أن أقول إن أكثر الناس حديثا مع بعضهم هم المدخنون، إذ تجمعهم غرف التدخين وتنشغل أيديهم بسجائرهم فلا يعبثون بكل راحة بهواتفهم النقالة، فيميلون للكلام مع الناس عوضا عن ذلك، وتجد مجتمع المدخنين أكثر نشاطا من غيره، وهذه هي الحسنة الوحيدة للسجائر في بحر ضررها التام.

كبار السن تاج رؤوسنا لا يزالون على فطرة في الحديث مع الناس، ليس هذا على مستوى مجتمعنا فحسب، بل على مستوى جميع مجتمعات العالم، فإن أردت الحديث مع الناس تذكر أن هؤلاء الكبار الأوسع صدرا والأجمل روحا والأكثر سلامة في فطرة الروح العبقة!

كانت كراسي الانتظار باختلاف أنواعها ولا تزال فرصة للحديث مع الناس لم يفسدها إلا حضور الهاتف المتنقل، فكراسي انتظار الحلاقين وانتظار الطبيب وانتظار البنوك والأحوال المدنية (سابقا) كانت مسرحا للتعرف والتعارف بين الناس، قبل أن يقتلها الهاتف المحمول، فإن أردت الحديث مع الناس حيّد جوالك ساعة!

ملاحظة أخيرة: كانت السيدات النافذة الأخيرة لإبقاء الحديث مع الناس قائما، لكن قتلت السيدات هذه العادة بالجوال أيضا، وبدلا من تبادل أطراف الحديث مع سيدة أخرى صار تصوير المكان ونقله حيا لبرامج السناب والانستقرام، وترقب ردود أفعال الصديقات في تلك المواقع؛ أهم من الحديث مع من حولها، فيا ليت السيدات حافظن على هذه الميزة النسبية فيهن، لكنها هي الأخرى ماتت!

Halemalbaarrak@