عبدالله الأعرج

المنغصون.. إنس يشبهون الشياطين!

الاحد - 19 يناير 2020

Sun - 19 Jan 2020

في عام 2003 كنت مبتعثا في أستراليا، وكان السفر إلى تلك البقعة من الأرض أشبه بالذهاب إلى المجهول للمبتعث السعودي تحديدا، وذلك لحداثة البلد كوجهة دراسية للسعوديين مقارنة بأمريكا وبريطانيا. وحين وصلت لهذه القارة النائية لم يكن أمامي كثير من المعلومات، حيث كانت الملحقية الثقافية آنذاك في الباكستان، الأمر الذي يتطلب إرسال بعض الوثائق والانتظار لوقت يطول قبل وصول الرد عليها.

ولأن الشاب العربي كعادته يتحلى بكثير من النخوة والشهامة، فقد كانت فكرتي الأولى بعد الوصول البحث عن قومي عل غربتي أن تخف واستهلالي أن ينجح، فكان أول سؤال بادرت به صاحبي كيف هي المدينة؟ ليأتي الرد مجلجلا مزلزلا أن المدينة التي نحن بها غير آمنة، والجامعة معقدة وفرص النجاح قليلة! الأمر الذي جعل الأيام الأولى في تلك القارة - بالنسبة لي - أشبه بما ينتاب مشاهدي أفلام الرعب، فبت لا أنام إلا بعين واحدة، بينما الأخرى ترقب الباب تارة وتتفقد أبنائي تارة أخرى.

انقضت أيام البعثة ولياليها بجمال لا يوصف، وغادرت تلك البلدة التي صنفت حينها بأنها الأكثر أمانا بالقارة الأسترالية والأكثر نزوحا إليها بسبب رفاهية الحياة فيها واعتدال أهلها وطقسها، ووفرة موارد الرخاء بها، بل وكانت جامعتها الرائدة واحدة من أفضل خمس جامعات أسترالية في اهتمامها بطلابها آنذاك.

ولأن خبرة الابتعاث لا تروى بمصداقية إلا بعد العودة منها بسنين، ما زلت إلى اليوم أحمل درسا قاسيا من هذه القصة، ملخصه (فر من المنغصين)!

فصاحبنا الذي داهمني في مستهل رحلتي بكل قبيح حول تلك البلدة لم يوفق في إيصال رسالة أخذ الحيطة والحذر بطريقة لبقة، ولو أنه أراد ذلك لما تجاوز في توعيته لي بمحاذير الجانب الأمني، ليقفز للجانب التعليمي بكامل ضبابيته والذي هو بيت القصيد في رحلة الشوق والشقاء!

وهكذا هو المنغص في سائر أمور الحياة لا تجده في الجانب الإيجابي مطلقا، فإن رآك ترفل في نعمة من الله لم تجد منه كلمة مشجعة أو استحسانا مبهجا، وإن هاجمتك عاديات الزمن بشكل أو بآخر كان أول الحاضرين وبأقنعة كثيرة، منها قناع الناصح وقناع المشفق وقناع الحكيم وقناع المستشرف، وغيرها من الأقنعة التي يواري بها سوء مقصده وقبح فعله!

ولأن التنغيص سلوك سلبي في مجمله فإن السلوك السلبي لا يطرحه أرضا سوى السلوك الإيجابي، تماما كما يهزم الفكر الفاسد بالفكر المضاد وهو الفكر النير الواعي، لذا ومنذ ذلك الوقت فقد كان الدرس الكبير الذي تعلمته من الحياة قبل الشهادة أن أملأ نفسي يقينا أن خبرات الناس متفاوتة وأنفسهم متقلبة، وأن قصة تطرح هنا أو هناك لا يجب أخذها دوما مأخذ الجد، كذلك فإنني مدين لذلك المنغص بكثير من الامتنان لأنه منحني الفرصة لأملأ بالإيجابية كل من ملأني بالسلبية، وأن أنظر للأمور بروية دون أن أقع بين فكين مفترسين، هما الاندفاع الأعمى أو الإحجام الأصم!

وكم أتمنى أن يكون في نظامنا التعليمي توعية حول الممارسات السلوكية السيئة، ومنها موضوع (آثار التنغيص السلبية)، شريطة ألا تقدم التوعية بآثارها على شكل تنظير ومفاهيم بين دفتي كتاب، بل تجعل الطلاب يستنتجون ذلك من خلال قصص تناسب كل مرحلة، فتكون المدرسة بهذا قد أحسنت صنعا لتوعيتهم في إطار التشويق والترفيه، وهيهات لما تعلمه النشء عن حب وشوق أن يمحى من الذاكرة ولو بعد حين!