محمد السنيدي

«دار الجراثيم» ومواجهة الجدري بالمملكة في القرن الماضي

السبت - 18 يناير 2020

Sat - 18 Jan 2020

إن استئصال مرض الجدري نهائيا عام 1980 يعد أحد أبرز الإنجازات الطبية التي حققت في تاريخ البشرية، والذي كان - بعد فضل الله - بسبب تكاتف الدول مع الجهود التي بذلتها منظمة الصحة العالمية، وبفضل وجود لقاحات فعالة.

وقصة مكافحة بلادنا الحبيبة للفيروس المسبب لمرض الجدري بدأت عام 1345هـ الموافق 1927 قبيل توحيد المملكة عندما كان الملك عبدالعزيز ملكا للحجاز ونجد وملحقاتها، ففي العدد 110 لجريدة أم القرى الصادرة في 21 يناير 1927م أعلنت مصلحة الصحة والإسعاف العامة عزمها تأسيس ما سمي «دار الجراثيم» في الطائف أو جدة لمهمة أساسية، وهي الاستحصال على لقاحات وأمصال ضد الأوبئة والأمراض السارية.

وكان مدير مصلحة الصحة والإسعاف العامة آنذاك الدكتور محمود حمدي -رحمه الله- يبحث عمن يدير دار الجراثيم حديثة المنشأ، ولا سيما مع ندرة المتخصصين في البلاد، وقد تحتم البحث عن مختص بعلم المايكروبات من الخارج لاستقطابه.

وكان السيد فان در مولن هو القنصل العام للقنصلية الهولندية التي أسست سنة 1869بجدة، وفي أوائل عام 1927 تلقى القنصل الهولندي من جلالة الملك عبدالعزيز كتابا يفيد برغبة مصلحة الصحة والإسعاف العامة باستقطاب مختص بعلم المايكروبات للعمل بالمصلحة لتعزيز الصحة العامة بالمنطقة، وذلك حسبما نشر في كتاب القنصل آنذاك (D. van der Meulen, Don’t you hear the thunder: A Dutchman’s life story (Brill, 1981), 85.).

وبعد تحر دام بضعة أشهر، وقع الاختيار على الطبيب وعالم المايكروبات الهولندي الدكتور فان در هوج (Dr. Van der Hoog)، وأعلنت جريدة أم القرى في عددها 147 الصادر في 7 أكتوبر 1927 عن وصول الدكتور من هولندا ومعه المعدات اللازمة لبناء المعمل المخصص للاستحصال على اللقاحات، وبأنه قد خُصِص جزء من المستشفى الصحي في جدة لذلك.

وكانت البلاد في تلك السنوات كما هو الحال في كثير من بلدان العالم تواجه تحديات صحية كثيرة، من أهمها الجدري، وكان لقاح الجدري يجلب من خارج البلاد وتحديدا من مصر، وكان هذا تحديا لحاجة البلاد من مواطنين وحجاج ومعتمرين لكميات كبيرة منه، ولا سيما لما يسببه نقل اللقاح من الخارج في فقدانه لفعاليته نتيجة الحرارة وسوء التخزين.

وفور وصول الدكتور هوج بدأ العمل بالتجهيزات المعملية والمواد اللازمة لاستحصال اللقاح محليا للتصدي لمرض الجدري، واتخذ من دار الجراثيم موضعا لتدريب الموظفين على طريقة استحصاله.

وفي مطلع عام 1928 أصبحت مصلحة الصحة والإسعاف العامة تعلن دوريا في جريدة أم القرى (العدد 163 وأعداد أخرى بعده) عن توفر اللقاح، وتحث الناس على الحضور للمراكز الصحية لأخذه.

وشهدت الأشهر الأولى من 1929 تأسيس فرع ثان من دار الجراثيم، مقره مكة المكرمة في مستشفاها (أم القرى - العدد 212) لمكافحة المرض وحماية الحجاج والمعتمرين، مما مكن مصلحة الصحة العامة بشكل كبير من أن تبعث دوريا بكميات من اللقاح لأرجاء البلاد، بعد زيادتها لقدرتها الإنتاجية منه.

ولم يقتصر عمل دار الجراثيم على الاستحصال على اللقاح فحسب، بل كان أيضا مسؤولا عن تحليل العينات التي تجلب من المرضى لكشف مسببات المرض، فقد كانت أمراض أخرى كالزحار والتيفوئيد والكوليرا وحمى الضنك تشكل تحديا، وكشف الحالات مبكرا خير معين لمحاصرة المرض بعزل المريض ومداواته.

وفي عام 1930 أصدرت الدولة نظام التطعيم ضد الجدري المكون من 28 مادة نشرت في جريدة أم القرى (الأعداد 299،298،297). وأوضحت مواد النظام مهام وواجبات كل عامل في المجال الصحي لمقاومة المرض، ونادى النظام بحث المواطنين لعوائلهم والمدرسين لطلابهم والمطوفين لمكفوليهم على ضرورة أخذ اللقاح، وفصل النظام أيضا في كيفية إجراء عملية التلقيح وطريقة حفظه وتحضيره في المراكز الصحية ومدة صلاحيته في الشتاء والصيف.

وقد استمرت عملية التلقيح وزادت رقعة توزيعه بعد توحيد أجزاء الدولة بتأسيس المملكة العربية السعودية عام 1932، وإثر ذلك استمرت أعداد الإصابات بمرض الجدري بالتناقص حتى وصلت لأدنى مستوياتها في الخمسينات الميلادية، وانعدمت في الستينات.

إن تأسيس دار الجراثيم في عهد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، كان اللبنة التي من خلالها استطاعت بلادنا استئصال الجدري وتأمين مواسم الحج والعمرة، وأعانت كثيرين ممن يفدون للبلاد في تجنب المرض، بتوفير اللقاح لهم مجانا.

وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان، أنشأت الدولة المركز السعودي لتصنيع اللقاحات والمستحضرات الحيوية، بإشراف مباشر من مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وشركة تطوير المنتجات البحثية، وتشغيل الشركة السعودية للقاحات الطبية، المشروع الذي يهدف إلى تعزيز قدرتنا الذاتية على مواجهة الأمراض والأوبئة محليا، بتطوير وتصنيع لقاحات وعلاجات حيوية لمجابهتها، متفائلين بأن يكون المركز بتوفيق الله وعونه، مصدر فخر لنا ولأجيال قادمة كما كانت «دار الجراثيم».