عادل الزهراني

من أجل دعم الرقي الاقتصادي لشوارعنا

السبت - 18 يناير 2020

Sat - 18 Jan 2020

من خلال مجموعة من الدراسات والأبحاث أجريت منذ تسعينات القرن الماضي وتواصلت حتى اليوم، ظهرت أدلة عديدة مقنعة نمت بتزايد مطرد لتدعم ضرورة صناعة الأحياء الصديقة للمشائين، وذلك عبر شوارعها التي ينبغي أن تعزز للمشي والتجول سيرا بين المباني. وتبعا لهذا الاقتناع الذي ترسخ في العقول تدريجيا، أصبحت هذه الضرورة مرتبطة كليا بجودة المدن، إذ بفضلها يتوفر الأمان والصحة والجمال والترفيه في رحاب هذه المدن. وهكذا تكرس كبريات الظروف لتنمية مختلف مستويات عيش السكان، حيث يجري حتما تفعيل التنمية الاقتصادية لمختلف الأنشطة المرتبطة بالفراغات العامة المفتوحة، وبشبكة مسارات المشي التي تعتبر أحد أسس الازدهار المجسم، عبر إنعاش القوى الاقتصادية المحركة للمنظومة العمرانية والمشكلة للنسيج العمراني المنتج.

ولكن إذا اعتبرنا هذه المفاهيم المخصوصة في ربوعنا، سنجد أن غياب السلطة عند ضبط أو تحديد جودة المشاريع الحضرية بمعيار المدينة «الصديقة للمشائين» قد ساعد على أن يصبح نسيج بعض المدن السعودية نسيجا عمرانيا هلاميا أشبه ما يكون بقطع فسيفسائية مرصوصة جنبا إلى جنب دون انتظام، بحيث تظهر فيها «النزعة الفردية» التي تؤكد انفصام واستقلال كل قطعة بذاتها داخل النسيج العمراني.

وفي هذا السياق يجب ألا ننسى أن شبكة حركة المشاة بمعيار الصحة العالمية تعتبر ركيزة أساسية لتخطيط شبكة الحركة داخل المدن، وبالتالي نستشف هنا أن شوارعنا تعاني من غياب تحديات عدة أدى إلى تهميش الحراك الاقتصادي الذي يمثل عادة العمود الفقري لإنتاجية مدن مزدهرة ونشطة ومحركة للمنظومة العمرانية. فعالميا على مستوى سياسات إدارة المدن، تتوجه الشوارع استراتيجيا وتدريجيا إلى فراغات عامة مفتوحة للمشائين، ترتقي فيها هندسة حركة المرور المستدامة فتؤثر بالإيجاب على قيادة المدينة لتكون أكثر إنتاجية ومستدامة اقتصاديا. وبهذه الديناميكية الفريدة تصبح هذه المدن عواصم إبداع وابتكار وجمال ومتعة. وما مثال حال أفضل عشر مدن حققت معيار تعزيز المشي حول العالم إلا أكبر دليل على ما نقول. فاليوم تبنى قواعد التصميم الحضري وتخطيط المدن باعتماد الدراسات الاقتصادية التفصيلية لمخرجات حركة المشاة، ومن ثم حركة المركبات كأساس لإعادة التجديد الحضري المسمى بـ «التحضر المستدام»، كما أدرجته الأمم المتحدة في أهدافها العالمية للتنمية المستدامة - الهدف الحادي عشر.

وقد خلصت دراسة أسترالية أجريت في هذا التوجه ونشرت في 2014م إلى أن التحسينات الحضرية التي أجرتها مدينة ملبورن من هذه الزاوية قد ساعدت في ارتفاع الإيجارات، وجذب الشركات الريادية والأنشطة الاقتصادية المتميزة، حيث أنعش تعزيز بيئات المشي وركوب الدراجات القيمة العقارية للممتلكات الخاصة بشكل كبير.

وفي عام 2009م، خلصت كذلك دراسة كندية إلى أن المحال التجارية المعتاد زيارتها مشيا قد ازدادت قيمتها العقارية، حيث تنامت أسعار المنازل المحيطة بها والمتاخمة لأرصفة المشاة، فارتقت من قيمة 500 دولار إلى 3000 دولار وأكثر.

كما أجرت مؤخرا أيضا هيئة النقل في مقاطعة سان فرانسيسكو دراسة أفادت بأن مستخدمي وسيلة (المشي) في رحلاتهم البندولية من المنزل إلى البقالة أو إلى المقهى أو نحو الخدمات الضرورية والاختيارية المحيطة، ينفقون على التسوق شهريا أكثر من أولئك الذين يتنقلون بالسيارة، مما زاد في إجمالي الإنفاق والدخل الضرائبي للمدين، وبالتالي يضمن الشارع الصديق للمشائين الاستمتاع بالحركة، حيث يمكن الناس من السير بأمان من متجر بيع الملابس إلى المقهى وإلى المطعم والبقالة والصيدلية..إلخ وإنفاق المال عليها كلها. وهكذا يحصل الأشخاص الذين يعيشون في هذه الأماكن على مواد البقالة وغيرها من الضروريات بسهولة، ويزيد احتمال زياراتهم لشركات السلع القريبة في كثير من الأحيان.

ولعل الأهم من ذلك كله هو أن الشارع الصديق للمشائين هو الشارع الذي تشغل فيه عديد من الشركات الريادية الجزء الأكبر من إجمالي الدور الأرضي للمباني، مما يعني أنه يمكن الوصول إلى العشرات من الوجهات في غضون دقائق سيرا على الأقدام، مما يدعم حسن استغلال كل شبر من الأرض لتحفيز الإنتاج الاقتصادي للمدينة، فيمكن ذلك مثلا من تجنب الهدر الذي تحدثه مواقف السيارات الفارغة في مدننا أو المناظر الطبيعية غير الضرورية وغير المدروسة، والتي لا يمثل وجودها سوى مبالغة لإرضاء أعين قائدي المركبات.

ونشير هنا على سبيل المثال إلى أنه في المجتمع المتخصص الأمريكي يقضي ممثلو الاقتصاد الضرائبي معظم وقتهم في زيارة المدن والبلدات في جميع أنحاء الولايات، لتحليل إنتاجيتهم الضريبية ومقارنة مقدار إيرادات الضرائب التي يجري إنتاجها لكل فدان في مناطق مختلفة، وقد وجدوا دائما أن الأماكن الصديقة للمشائين ذات النسيج الضام، والتي تمثل فيها شبكة المشاة الحصة الصريحة في النسيج العمراني؛ تنتج قيمة ضريبية أعلى بكثير لكل فدان مقارنة بالأماكن الموجهة تلقائيا للمركبات، وبالتالي ترتقي هذه «المنظومات» المكانية المدروسة بالازدهار العام وجودة حياة الناس اليومية، وينطبق هذا كذلك في مجتمعات كندا وأوروبا وكوريا الجنوبية واليابان وأستراليا.

وتبعا لكل ما أوردنا يمكن لنا أن نستنتج جملة القواسم المشتركة لهذه الأماكن المتواجدة بثبات في هذه المدن على اختلافها، وهي كالتالي:

  1. الشوارع ضيقة إلى حد ما مع عدم وجود أكثر من مسار لحركة المركبات ومسار لوقوفها على أحد جانبي الطريق - وكل ذلك يعني أن السيارات يجب أن تسير ببطء.

  2. وجود تقاطعات فعالة عند الإشارات تيسر على الناس وأطفالهم عبور الشارع بأمان.

  3. الاعتبار البيئي للغطاء النباتي بوجود الأشجار العالية اليانعة وافرة الظلال للأشخاص الذين يسيرون مشيا، وهذا أمر مهم بشكل خاص في المناخات الحارة الرطبة مثل بعض مدن المملكة والخليج.

  4. ممرات المشاة ليست فقط لمرور المشائين، بل لإحداث أنشطة وفعاليات وتتمتع بالأثاث العام للشوارع.

  5. فتح الأدوار الأرضية (وقد تضاف إليها الأولى) لجميع المباني المتاخمة لأرصفة المشاة لممارسة أنشطة تجارية، إما ضرورية يومية أو استجمامية كالمقاهي والمطاعم.

  6. ارتباط الأدوار الأرضية للمحال التجارية بانفتاح مباشرة على الرصيف، وتمديد أماكن الجلوس لخارج المحال.

  7. إمكانية الوصول إلى الأنشطة التجارية بسهولة من قبل المارة المترجلين بطريقة سلسة تجذب أنظار قائدي المركبات السائرين حولهم.

  8. وجود الشقق والمساكن والمكاتب بالطوابق العليا من المباني، مما يوفر إيرادات ضريبية إضافية ويضع مزيدا من الأشخاص قاب قوسين أو أدنى من الشركات الريادية المحلية المحيطة.

  9. وجود أرصفة فعالة ذات نظام شامل ومتكامل لما ذكر سابقا.

  10. تبني استراتيجيات مواقف السيارات كجزء من التخطيط الشامل، من خلال تعزيز أهمية المواقف المشتركة للأحياء السكنية والمواقف العامة متعددة الأدوار للشوارع ذات المشروعات المتعددة الاستخدامات.

  11. أخيرا، تبني سياسة وثقافة أن مواقف السيارات المدفوعة تعود إيجابا على المدينة، إذ إن المواقف المجانية تحفز الناس على التجول بحثا عن مواقف، بالتالي خلق الاكتظاظ والفوضى المرورية.




وهكذا نعيد مرارا وتكرارا التنويه بأهمية المدن الصديقة للمشائين التي يجب أن يكون فيها المشي آمنا وممتعا وجاذبا للناس، وتكون فيها حركة مرور المركبات السريعة غير ذات أولوية، وتكون أنماط شوارعها مرتكزة على منتج اقتصادي سياحي ترفيهي استجمامي يخدم التنمية في المدينة.

ومن ناحية أخرى نذكر أن طبول الإصلاح إذا قرعت قصد تحويل شوارعنا نحو بيئة صديقة للمشائين والدراجين، فإن تشجيع النشاط التجاري وتوليد إيرادات ضريبية أكبر لكل متر مربع سيكونان من الأهمية بمكان، حيث سيقدمان عائدا أعلى في الاستثمار من الشوارع الموجهة تلقائيا للمركبات. وما يتم الأمر إلا كذلك لمعالجة شوارعنا التي تغيب فيها اليوم مع كامل الأسف أهم أسس «الأنسنة» من حيث مردودية التوزيع الوظيفي الأنسب والتوظيف العملي الأنفع، وبالتالي من حيث حسن الاستغلال التنموي في هذا المنظور.

وفي الختام نريد لمقالنا هذا أن يكون دعوة مباشرة لتقييم شوارعنا القائمة، وإعادة صياغتها لتصبح صديقة للمشائين والدراجين، ويكون ذلك طبعا من خلال رؤية استراتيجية جريئة تعيد صناعة الشوارع لتكون حقائب استثمارية تستفيد منها أجيالنا ومدننا الحاضرة والقادمة لعقود وعقود.