زيد الفضيل

الصندوق الأسود والحكم الرشيد

السبت - 18 يناير 2020

Sat - 18 Jan 2020

في حلقته الأخيرة من برنامج «الصندوق الأسود» الذي يقدمه الإعلامي الكويتي عمار تقي، دعا الدكتور عبدالله النفيسي بمزيد من التركيز إلى وجوب قراءة وتأمل كتاب «ضد الانتخابات» لديفيد فان ريبروك، الذي يبين فيه مساوئ مسار الانتخابات اليوم على مسيرة ما تصبو إليه المجتمعات الغربية من تحقيق عادل للديمقراطية، حيث فقدت المجتمعات ـ وفق قول الدكتور النفيسي بناء على ما ورد في الكتاب ـ وعيها العميق، وإدراكها الشامل لأهمية ودور العملية الانتخابية في تحقيق الحكم الرشيد، وصارت عاكسة لمتطلبات واحتياجات رأس المال، فكان أن أخذ الناس في التقاعس عن المشاركة في عملية التصويت الانتخابي بشكل ملحوظ، ومن أجل ذلك جاءت دعوة الكاتب للنخب الغربية إلى التداعي لفتح حوار معمق حول الأمر، وهو الشيء ذاته الذي رجاه الدكتور النفيسي على الصعيد الكويتي، وحتما على الصعيد العربي.

والحق أقول إن الدكتور النفيسي (وهو شخصية إشكالية كبيرة من وجهة نظري) قد صدق في هذه الدعوة التي بلورت جوهر إشكال مسيرته السياسية أيضا، ولا سيما في تلك الفترة التي انتخب فيها نائبا بمجلس الأمة الكويتي عام 1985، حيث وصف مشاركته وعديد من زملائه في المجلس بـ»الصبيانية السياسية»، إذ في الوقت الذي كانت تمر فيه الكويت بمخاض سياسي دولي عسير، وحرب مشتعلة بين دولتين كبيرتين محيطتين بها وهما العراق وإيران، وأزمات مالية عالمية، كان النائب النفيسي وجانب من المجلس منشغلين في كيفية مواجهة الحكومة وإسقاط هيبتها، وهو أمر أقر الدكتور النفيسي في اللقاء بندمه عليه، بل وأبان عن شعور بالخزي لذلك، وجميل منه أنه أشار في محضر لقائه إلى أن دراسة السياسة وعلومها شيء، وممارسة الدور السياسي شيء آخر.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: إذا كان ذلك هو حال النخب السياسية في النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم، وقد كان هناك شارع سياسي متابع ومدرك، فكيف سيكون المآل اليوم ولم يعد هناك شارع يدرك أفراده أبعاد العمل السياسي، ويعي قادته مناوراته المتنوعة؟ حتما سيكون الأمر مخيبا للآمال مع حدوث أول عملية انتخابية، يقاد فيها الشارع دون أن يكون له أي دور فاعل في مسار العدالة المنشودة، وهو ما يجعل فحوى الكتاب مقبولا لكل باحث رشيد، ويفرض في المقابل على مختلف مراكز الدراسات والمؤسسات أن تبحث في الصيغة المثلى لتحقيق مسار الحكم الرشيد، التي تناسب سمات ووعي إنسان ومجتمع القرن الـ 21م.

في هذا الإطار أشير إلى أهمية أن تقوم أقسام التاريخ التي أراها فاقدة لهويتها ومضمونها ودورها أيضا، علاوة على أقسام العلوم السياسية، بإخضاع مثل هذه الحلقات للدراسة والبحث، ليس بهدف الرد عليها، أو حتى مناقشتها، وإنما بهدف تحليل ما ورد فيها من معلومات، وبيان أوجه الإشكال فيها، ووضع اليد على جوانب الإيجاب والسلب بهدف الاستفادة من معالجتها، وتلك هي مهمة المستكشفين للصندوق الأسود في عالم الطيران الذين يلجؤون إليه حال وقوع الكارثة، لمعرفة خبايا ما حدث في الطائرة، وتحديد أوجه الخلل فيها، ثم العمل على تلافي ذلك مستقبلا، سواء كان الخلل فنيا تقنيا أو بشريا.

ختاما، أرجو أن نتدبر في مقولة دارجة مفادها «التاريخ يعيد نفسه»، وهي مقولة أراها بحكم التخصص قابلة للتصديق بشكل أو بآخر، فالتاريخ يصنعه سلوك بشري، ونوازع إنسانية، فإذا أحسنا دراسة مختلف تلك النوازع بتجرد، ووقفنا على جوهر إشكالها، أمكننا الاستفادة من التجربة التاريخية في مسارنا المستقبلي، ولعمري فذلك هو سياق مختلف الدول المتقدمة التي رسمت مسارها المستقبلي بذهن الباحث في الصندوق الأسود، فهل يصعب علينا ذلك؟

@zash113