مرزوق تنباك

من الجعد إلى شحرور

الثلاثاء - 31 ديسمبر 2019

Tue - 31 Dec 2019

في تاريخ الأديان والمذاهب مساحة عريضة من الاختلاف والتنازع في الأفكار والمعتقدات والآراء والمقاصد، تتسع دائرة الاختلاف فيها وتمتد مع الزمن، وتقدح شرارتها أقوال يفوه بها بعض المفكرين والمجتهدين والعلماء العارفين، وتكون هذه الأفكار والمواقف متقدمة جدا على مدارك عامة الناس، فتصادم السائد عندهم والمألوف في ثقافتهم حين يواجهون غرائب المسائل التي لا يحسنون النظر فيها أو تلك الأفكار والآراء المتجاوزة للمعهود والمألوف والمتفق عليه في البيئات المحافظة حيث عامة الناس وغلبتهم.

هذه الجدلية نشأت مع الإنسان منذ القدم، وقد تكلف من يخاطر بآرائه ويجاهر بمعتقداته ثمنا باهظا يصل إلى حد ذهاب روحه والاعتداء على حرمته، ومصادرة قيمته كإنسان مكلف بالنظر والتأمل والتفكر بحرية تامة، وعندما يظن أن الله وهبه علما ومعرفة يعلنها للناس.

وحتى ننظر إلى دائرة أوسع من الثقافات ونبتعد قليلا عن ثقافتنا العربية الإسلامية سنذكر الحضارة اليونانية والجدل الفكري الذي كانت تمارسه أساطين تلك الحقبة وما بينهم من التحدي، مما جعل عظيما من عظماء الحضارة اليونانية يدفع حياته مقابل بوحه بآرائه ومعتقداته الفكرية، ويتجرع السم القاتل وهو يردد معتقداته لا يحيد عنها، حكم عامة الناس على سقراط بالموت مسموما، ولكن آراء سقراط ومعتقداته ودفاعه عن مبادئه أحيته وأبقته يعيش آلاف السنين ويسير مع الزمن والتاريخ، بينما محا الزمن من حكم عليه بالموت وانتهى إلى الأبد دون أن يكون له ذكر أو بقاء، مات سقراط وبقيت أفكاره ومعتقداته فكأن الموت لأهل الأفكار والمبادئ والحرية الفاعلة حياة لا تموت ولا تفنى.

أما الحضارة الإسلامية فمنذ العهد الأول من تاريخ المسلمين كان أصحاب الرأي والاجتهاد في الأمور العامة عرضة لموجات مضادة من الأفكار والمعتقدات، يموت بسببها كثيرون وينجو من الموت قليلون من الذين تلاحقهم صفات الزندقة والإلحاد والمروق من ربقة الدين، ثم لا يلبث التاريخ إلا أن يسجل هؤلاء المقتولين أو المنبوذين بسجل الشرف على صفحاته البيضاء، لكنه يطمس أسماء أعدائهم وخصومهم ويمحوها من صفحاته، وينكر وجودهم.

ولو استعرضنا تاريخنا الإسلامي منذ العهد الأول لما أعوزنا الدليل ومئات الأمثلة على ما نذهب إليه. أهمهم الإمام البخاري صاحب صحيح الحديث الذي ينزله أكثر المسلمين منزلة لا يضاهيها كتاب غيره بعد كتاب الله، ومع ما هو فيه من تعظيم عند الناس اليوم فقد أخرجه قومه ومعاصروه من نيسابور وبخارى، وطردوه منها ومات وحيدا غريبا في قرية من قرى سمرقند، وانظروا كم بقي البخاري وأين ذهب من أخرجه وعاداه.

ومثل البخاري سلسلة طويلة من الأسماء اللامعة في كل فنون المعرفة لم تستطع مجتمعاتها ومعاصروها تقبل آرائها أو تحملها، وصراع الأفكار هو سبب هلاكها جسدا وحياتها فكرا وأدبا، ليس أقلهم ابن رشد وابن حزم وابن الخطيب ولا ابن الهيثم وابن سيناء، وقائمة لا تنتهي من الأسماء التي هي اليوم مجال الفخر للحضارة العربية الإسلامية، كل هؤلاء الذين ذكرنا أمثلة منهم والقائمة أطول من أن تستوعبها أسطر معدودة، كان سبب نبذهم أو قتلهم دينيا في ظاهره، مبطن في أكثر حالاته في مصالح الدنيا وتنافس الأضداد على شؤون الحياة ورغائبها. وقد صح قول من وصف ذلك بالحكمة المشهورة (المعاصرة حجاب).

ولا شك أن العفو والتسامح وتسليم حكم الآخرة لخالقها كانت هي الأولى، وقد ثقفت الحضارة الغربية المعاصرة قيمة الإنسان وحريته الشخصية والتعبير عن آرائه حتى الدينية منها، ولم تحل بينه وبين رحمة ربه والحكم له أو عليه، وقد وقفت الكنيسة الأسكتلندية قبل سنوات موقفا يحسن ذكره بالمناسبة، حين توفي روبن كوك وزير خارجية بريطانيا في عهد حكومة بلير العمالية، وكان الرجل قد ترك الكنيسة ورفض تعاليمها، فكانت كلمة القس في تأبينه: لقد ترك المستر كوك الكنيسة في حياته وأعرض عنها ولكن الكنيسة ستحتويه وتضمه إليها بعد موته ولن تتركه للضياع. ورحمة ربك وسعت كل شيء.

Mtenback@