زيد الفضيل

اللغة هوية.. من ضيع هويتنا؟

السبت - 28 ديسمبر 2019

Sat - 28 Dec 2019

اللغة هوية، جملة ألفتُ قولها، وألفتُ سماعها، وصارت ككُرة يتقاذفها المثقفون في كل محفل سنوي للغة العربية، كأي معنى من المعاني السامية التي ألفنا التشدق بها بأصواتنا، واعتدنا تنميق ألفاظنا حين يأتي يومها، ثم ما نلبث أن نعود إلى ساقيتنا لندور حولها دون وعي وإدراك.

إنها الحقيقة التي علينا أن نصدح بها، ويجب أن نكاشف أنفسنا بمرارتها، وندرك حقيقة ضياع ما نعيشه من قيم ومعان وسمات في ظل تكالب الوهم والزيف الذي صار جاثما على أذهاننا، ولم يعد باستطاعتنا مواجهته.

فكم من شخصية تلحفت بلقب أكاديمي وهمي، وصرنا عاجزين عن مساءلتها؟ وكم من دعِيّ لبس جلباب نسب ليس له، ولا يمكننا مواجهته؟ وكم من متفيقه نصبَ لذاته كرسيا يجول ويصول بالباطل من خلاله، ولا قدرة لنا على وقفه؟

وكم من مُتثيقِف رمى بنفسه في حلبة المثقفين جهلا وغرورا، وتسنم ذراهم تلصصا وخفية، وبات إبعاد الأصيل هدفه المنشود حتى لا ينكشف عواره، وتلك هي كارثة الكوارث في عالمنا العربي بوجه عام.

أمام هذا الواقع المزري، وفي ظل تنامي حالة التسطيح جراء وضع الشيء في غير موضعه كما يقال، نأتي لنتذكر قيمة وأهمية لغتنا العربية في يومها العالمي، بأحاديث جوفاء، وبرامج عقيمة، ومع انتهاء فعالية الاحتفاء يعود كل منا إلى موضعه دون اكتراث أو مسؤولية.

حقا الأمر مدهش ومؤلم في ذات الوقت، وكلما أنظر إليه بتأمل، أتذكر تلك اللقطة الخالدة من فيلم «الحدود» لدريد لحام، حين اجتمع الكل من أجل تحريره، وانبرى الخطباء في التنديد بوضعه، ونادى الكل من أجل تصحيح وضعه، ثم مع إسدال ستار الحفل، غادر الكل تاركينه في مكانه، وحيدا، غريبا، ليس له من الأمر شيء.

أليس هذا ما يحدث للغتنا العربية التي نتذكرها في هذا اليوم، ثم ما نلبث أن نتركها وحيدة، غريبة، بل ونساهم في مواتها يوما بعد يوم؟

ألسنا نحن من بتنا نتشدق باعوجاج ألسنتنا حين التحدث، فصار نطقنا بكلمات وجمل إنجليزية أكثر من نطقنا بكلمات وجمل عربية في أي برنامج أو ندوة وحديث يومي؟

ألسنا نحن من قرنا الحداثة والتطور بمدى قدرتنا على اعوجاج ألسنتنا؟ فمن كثر اعوجاج لسانه بكلمات أجنبية فرنسية أو إنجليزية، كان متقدما، متطورا، منتميا لهذا العالم الجديد، ومن ليس كذلك، ينظر إليه بازدراء، وإن أرادوا الأدب معه، نظروا إليه بشفقة؟

وعلى الصعيد الثقافي اختفى من المشهد أولئك الكبار من الأدباء والمفكرين الذين صاغوا حكاية المعرفة في العصر الحديث، فكيف بمن سبقهم، وعاش الناس قطيعة معرفية تامة مع كل أولئك، فلم يعد أحد من الأجيال المعاصرة (إلا ما ندر) يعرف مدرستي الديوان وأبولو، ويسمع بالرافعي والمازني والبارودي وإيليا وجبران والسياب ونازك، علاوة على العقاد وحافظ إبراهيم وشوقي والحكيم ونجيب وطه حسين والأخوين أمين، وغيرهم كثير، ناهيك عن سابقيهم من رواد المعرفة في حضارتنا المسلمة، وكان أن أدت هذه الفجوة إلى جهل مطبق بإنتاج أولئك المعرفي الذي كتب بلغة رصينة جزلة، وسياق متين بديع في الوقت نفسه، واستعضنا عنه بكتب هشة ركيكة في اللغة والمعنى، لا تسمن ولا تغني من جوع، صارت ـ مع الأسف ـ هي البارزة تسويقيا أمام الناشئة الذين عُمّي عليهم تلك الكنوز، وليس سرا إن قلت إن أحد مسببات ذلك راجع إلى إقصاء الأكفاء عن المشهد، والركون إلى معايير السوق في معارض الكتاب وليس معايير التنمية الصحيحة.

أختم بكلمة أبثها في وعي المسؤول قائلا: إن كنا مؤمنين بالرابط القوي بين اللغة والهوية، ولا نريد أن نكون شعوبا مسخا كبعض مجتمعات شرق آسيا الفاقدة لهويتها، فعلينا أن نبدأ بجد في نقل المعرفة بشكل كامل إلى اللغة العربية، أسوة بتلك الدول المتقدمة الناطقة بغير اللغة الإنجليزية، وليس الأمر صعبا، لكن أين الإرادة؟