مؤسسة الفكر.. ترسيخ المفاهيم وتعميق المضامين
كان البعض ينادي بفصل الفكر عن السياسة، وإبقاء الأدب في معزل عن الاقتصاد، وعزل الثقافة عن الأمن.. ولقد أثبتت الحوادث والأيام عدم صحة هذا
كان البعض ينادي بفصل الفكر عن السياسة، وإبقاء الأدب في معزل عن الاقتصاد، وعزل الثقافة عن الأمن.. ولقد أثبتت الحوادث والأيام عدم صحة هذا
الأحد - 13 ديسمبر 2015
Sun - 13 Dec 2015
كان البعض ينادي بفصل الفكر عن السياسة، وإبقاء الأدب في معزل عن الاقتصاد، وعزل الثقافة عن الأمن.. ولقد أثبتت الحوادث والأيام عدم صحة هذا التوجه أو ذاك، وتبين أنه فخ وقع فيه بعض أجزاء من الأمة، وعانت من ويلاته الأمة كلها.. حين انفصل الرأس عن جسده.. وابتعدت الخطوات عن سَويِّ الدروب، وتفرقت الجهود ومضى كل في طريقه. وكلنا يعرف أسرار قوة هذه الأمة حين كان الإسلام دنيا ودينا، وحين كان الفكر النقي الأمين ينتقل من بلد إلى آخر دون حجر أو تكفير ودون مصادرة أو تنظير.. فقد كانت كل العقول تبحث عن الحقيقة، وكانت كل العيون لا ترى إلاّ الحقيقة..
واليوم وفي خضمّ الصراعات التي بدأت بتصادم الأفكار، وفي حمى النزاعات التي جعلت من الفكر ساحةَ تصادم، اختلط فيها النافع بالعقيم.. والسليم بالسقيم، حتى صار الفكر من هول تشدده داء أرهق العقول وأعيا الأجساد، فهجَره نفر من أهله درءا لما صار يجلبه من وبال، واكتفاء لما يُحدثُه من فرقة ومن سوء حال، فخفت صوت الفكر، وسكت المفكرون، حتى تحقق للعيان قول الإمام علي بن أبي طالب - كرّم الله وجهه ورضي عنه: «عندما سكت أهل الحق عن حقهم، ظنّ أهل الباطل أنهم على حق».
والسكوت عن الحق يوازي خطر استخدامه لغير ما جُعل له، ذلك أن الفكر قبس ناضح بالضياء إذا أظلمت العقول، وهو طريق واضح المسالك إذا تاهت الخطى وتناءت.
ومنذ زمن بعيد وأمتنا تتعرض للغزو الفكري كأحد الأسلحة المضادة، والذي هو أشد فتكا وهتكا من الأسلحة التقليدية، حاولوا غزونا «بالموضة» وحاولوا النيل منّا بالانحلال، ثم بالإعلام وبالثقافة عبر الكتب والأفلام، ولم يكن لنا من واق - بعد الله - إلا تمسكنا بعقيدتنا والتفافنا حول أصيل ثقافتنا، وراسخ عاداتنا..
ومع أهمية هذا، كان لا بد أن يواكب هذا التمسّك، تماسك في فكرنا، وتعاضد في جهدنا الرامي إلى تنقيته مما شابه، وتخليصه مما به.
فانبرت الدول والحكومات والهيئات والمؤسسات، كل على قدر طاقته وقدرته، تحارب وتصحح المسار ليعود الناس إلى صوابهم، ولتتضح الرؤية الحقّة لكل العيون، وإيمانا بأهمية الفكر ودوره في هذه الحملة الواسعة على الإرهاب والضلال، بزغت مؤسسة الفكر العربي، وانبرى لهذه المهمة رجل عُهِد فيه الإخلاص في عمله حتى الإتقان، والتف حوله نفر شاركوه الحلم والإيمان، فكانت هذه المؤسسة الأمينة رحلة متنقلة تجوب عواصم العالم العربي ومدنه، واحدة إثر أخرى لترسيخ المفاهيم وتعميق المضامين..
ولقد أخذ الأمير خالد الفيصل على عاتقه وهو يؤسس للفكر العربي مؤسسته، ما تعانيه الأمة من مشكلات ومخاوف، فراح يحيط الانطلاقة بسياج من العطاء المتواصل والعمل الدؤوب، ممهدا سُبُلها من أجل الوصول إلى تحقيق الأهداف المرصودة، وبلوغ الآمال المعقودة، وكلما واصلنا السير معه في رحلة فكر جديدة، ازداد هو وازددنا معه رغبة في مواصلة المسير، فليس أشهى ولا أبهى من أن ترى بوادر الأمل تلوح في عيون الناس، لتزداد الثقة في قطف الثمار، وفي الزارع وفي الغراس.
بالأمس وفي القاهرة، وبعد أن تمازج الفكر بالسياسة، واحتفلت مؤسسة الفكر العربي على هامش مؤتمر (فكر 14) بمرور سبعين عاما على تأسيس جامعة الدول العربية، بعدما رعى فخامة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي انطلاقته، مؤكدا أهمية رعاية الفكر واحتضان الثقافة، ودورهما في تعزيز علاقات الأمة والحفاظ على موروثها وتعميق صلاتها، الأمر الذي يدفع بالعلاقات السياسية والثنائية إلى مزيد من التلاقي من أجل الأهداف المشتركة.
وكذا نوه أمين عام جامعة الدول العربية أن مواجهة الإرهاب تقتضي عملا فكريا وإعمالا ثقافيا لقيمنا الحضارية.
والحقيقة التي أود إيضاحها، أن الفكر الذي ابتكره صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل في مؤتمر (فكر 14) كان واحدا - بعد توفيق الله - من أسباب نجاح المؤتمر والذي أعلن الأمير نجاحه، بحمد الله وتوفيقه، فقد عمد سموه إلى وسيلة محفّزة تمثلت في طرح أسئلة كبيرة في مجالات كثيرة دون انتظار إجابات، بل ترك المفكرين يختزنون إجاباتهم في دواخلهم، ليبوحوا بها لاحقا من خلال فكرهم الناضج المسؤول بكل ما فيه من تفاعل ولّده اشتراك الجميع في التعامل مع أسئلة محددة ومشتركة، وكأن الأمير يمهّد لكل نتاج القادم من الفكر في إطار الأسئلة والإجابات التي طُرِحت، والتي تم اختيارها بعناية كبيرة، ليتوحد الطرح الفكري عبر إجابات متنوعة تؤدي في النهاية إلى جواب واحد كبير، يشرق بالتفاؤل والأمل لخير هذه الأمة وخير أهلها.
ولم يكن طرح الأسئلة هو كل شيء، بل راحت ورش العمل اليومية، الصباحية والمسائية، والجلسات الفكرية والمناقشات، تؤسس لمزيد من العطاء والعمل.
وبالرغم مما يكتنف المؤتمر عادة من رغبة وشعور في الانتهاء والاسترخاء بعد العناء والتعب والجهد المتواصل، فقد أضعف من هذه الرغبة وخفف من هذا الشعور ذلك الحضور المبهر والمشكور للأمير - يحرسه الله - فقد كان أول الداخلين إلى مواقع اللقاء والعمل.. وآخر المغادرين لها والمودعين لروادها الكرام.
ولم ينس الأمير أنه ما عاد يخاطب المفكرين والمثقفين وحدهم، بعدما أكرمه الله وأكرمنا بانتشار وهج الفكر في كل الأنحاء، فخاطب رجال السياسة وقادتها، داعيا إلى تضافر الجهود، بلا قيود أو حدود، لمواجهة ما تمر به الأمة العربية، بل والإسلامية من اضطراب أمني وسياسي واقتصادي بسبب نقص المناعة الفكرية، أو بسبب تلوث الفكر النقي بأفكار الضلالة والهدم، فتصدعت قلاع الفكر، مؤكدا أنه لا سبيل لترميمها إلا بأسلحة الثقافة والفكر، بعيدا عن المشاحنات والمزايدات، فتلك كانت الجسور الضعيفة التي عبروا من خلالها إلى فكرنا الصافي وثقافتنا النقية، اللذين بات الساسة والقادة يدعون إليهما قبل الأدباء والمفكرين.
بارك الله خطى الخير أينما سارت، ورعى الله السائرين عليها في كل مكان.