طلال الشريف

التعليم من أجل الحياة

السبت - 14 ديسمبر 2019

Sat - 14 Dec 2019

عشرات المشاريع الإصلاحية للتعليم العام خلال العقدين الأخيرين بالذات، وإنفاق بمليارات الريالات، وتخصيص ربع الميزانية سنويا للتعليم كأعلى إنفاق على قطاعات الدولة، وتأتي نتائج الاختبارات الدولية مخيبة للآمال، وإعلان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD لنتائج الاختبارات الدولية PISA لعام 2018 التي تقيس اتجاهات تحصيل الطلبة في الرياضيات والعلوم والقراءة، وحصول بلادنا في أول مشاركة لها في هذه الاختبارات ضمن 79 دولة على مراتب أقل من المتوسط وفق تقديرات المنظمة، كل ذلك أزعج المسؤولين والمهتمين بالشأن التعليمي والتربوي، لأن هذه النتائج تعكس إلى حد ما مستوى التحصيل في هذه المواد تحديدا ومستوى نظامنا التعليمي، باعتبار هذه الاختبارات مؤشرا دوليا للمقارنة بين النظم التربوية على مستوى العالم باختلاف خلفياتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.

التعليم الذي نريده لبلادنا هو التعليم من أجل الحياة، بحيث يركز على استثمار الإنسان والمكان ويرتبط بتجارب الإنسان واهتماماته وقضاء احتياجاته وعلاقاته وتفاعله مع مجتمعه المحلي ومحيطه الدولي ومستقبل أجياله، في ظل انفتاح العالم وارتباطه ببعضه، وتداخل واختلاط الثقافات وتزاوجها وتشكيل أنماط جديدة من الثقافات في كل جوانب الحياة الإنسانية، وسيتأتى ذلك من خلال الإمساك بمفاصل التعليم الرئيسية والتركيز على إصلاحها وفق خطة وطنية واضحة المعالم يشترك فيها كل المعنيين بالعملية التربوية من أفراد ومؤسسات.

وبعيدا عن تبادل الاتهامات بين هيئة تقويم التعليم والتدريب ووزارة التعليم، فإن مؤسساتنا التربوية بكل مكوناتها معنية بمعالجة هذا التدني في مستوى التحصيل، وأول خطوة يجب علينا القيام بها الشجاعة في قبول هذه النتيجة والتعامل معها باعتبارها أول تقييم حقيقي لمستوى نظامنا التعليمي من جهة دولية ذات مكانة مرموقة، والنظر إليها كجرس إنذار وتنبيه لإنقاذ نظامنا التعليمي قبل فوات الأوان بسياسات واستراتيجيات وطنية ومبادرات واقعية مؤسسية تلامس احتياجات الميدان التربوي والعاملين فيه.

ومن خلال خبرتنا الأكاديمية وارتباطنا بالميدان التربوي سنستعرض بعض الرؤى والتصورات التي يمكن أن تسهم ضمن مجموعة الإسهامات الوطنية الرسمية وغير الرسمية في تحسين مستوى نظامنا التربوي ومستوى تحصيل الطلبة في الرياضيات والعلوم والقراءة في الدورة المقبلة 2022.

والواقع أنه يحسب لوزارة التعليم، ممثلة في شخص الوزير، الذكاء العاطفي الذي استطاع من خلاله إعادة الثقة في رجال التربية والتعليم، وأعاد شيئا من قيمة المعلم من الناحية المعنوية، فضلا عن تبنيه الشخصي مشروعات ومبادرات الوزارة التطويرية في ضوء رؤية 2030، ومع ذلك الدور فإنه لا يكفي لإنقاذ نظام تعليمي أدرك المستفيدون منه ضعفه قبل إعلان نتائج الاختبارات الدولية بسنوات طويلة، فالتطوير الهيكلي للوزارة وأجهزتها المختلفة وأنظمتها ولوائح منسوبيها وحتى تطوير المناهج التعليمية، لا يشكل تحولا نوعيا في مسيرة التغيير الجذري في مكونات النظام التربوي وإن كانت مهمة كإطار عام لنجاح مسيرة التغيير، فالتحول النوعي الحقيقي يكمن في تطوير السياسة التعليمية والقيادات المدرسية والمعلمين والبيئة المدرسية، ودون التركيز على هذا الرباعي ستذهب كل الجهود المصاحبة سدى.

كيف نحدث التحول النوعي في تطوير السياسة التعليمية والقيادات المدرسية والمعلمين؟

الحقيقة أن وثيقة السياسة التعليمية لبلادنا تجاوز عمرها الزمني 30 عاما، وتطويرها أصبح ضرورة وطنية ملحة من منطلق حتمية التغيير والواقع المعاصر المتسم بسرعة التغيرات العلمية والتقنية، فضلا عن افتقارها إلى التركيز على التعليم من أجل الحياة، وعلى التنمية البشرية بأبعادها العقلية والنفسية والاجتماعية والبحث العلمي وتوافقها مع المعايير الدولية المعاصرة، وغياب القضايا الدولية المعاصرة عن مضامينها مع عمومية صياغة عباراتها وتوجهاتها.

وتعد القيادات التربوية من مديري إدارات العموم في الوزارة ومديري التعليم ومساعديهم والقيادات المدرسية خاصة، العنصر الحاسم في قيادة إحداث التحول النوعي المنشود واستثمار الموارد والطاقات البشرية المتاحة، لأن الخبرة الميدانية الطويلة والتدرج الوظيفي لم يعودا كافيين ما لم يصاحبهما التأهيل العلمي القيادي المتخصص، وهو ما يعني إعادة النظر في استراتيجيات وإجراءات الترشيح للأعمال القيادية في إدارات التعليم وقيادات المدارس ووكلائها والمشرفين التربويين، وإعادة تأهيلهم بشكل علمي في تخصصات القيادة والإدارة التربوية والإشراف التربوي، ليحصلوا على الماجستير المهني لمدة عام على أقل تقدير، خاصة في ظل عشرات الكليات التربوية في جامعاتنا المنتشرة على طول وعرض حدود جغرافيتنا، والقادرة على تنفيذ عشرات البرامج المهنية في زمن قياسي ووفق خطط موضوعة بالتنسيق بين الوزارة والكليات التربوية، مع التوسع في الاستعانة ببعض الخبرات الأكاديمية التربوية المميزة في قيادة إدارات التعليم ومكاتب التعليم، والعمل على تقييم أدائهم وإنجازاتهم في تحقيق مبادرات ومشروعات الوزارة، وتحسين مستوى التحصيل للطلاب، وفق نماذج وآليات موضوعية تقيس البعدين القيادي والإداري.

من جهة المعلم

المعلم بيت القصيد في جهود تطوير التعليم العام، وحتى الساعة لم تلامس تلك الجهود احتياجاته المهنية، وأبرز ما يحتاجه المعلم في هذه المرحلة ثلاثة أمور أساسية، هي:

1 - إعادة تأهيله في مجال تخصصه، وذلك بابتعاثه لدراسة ماجستير مهني داخل المملكة أو خارجها مبني على معايير عالمية، وبفترة لا تتجاوز العام الدراسي الواحد، وذلك لأن دورات الأيام المعدودة لا تفي بغرض التأهيل العميق والمنشود للمعلم العصري.

2 - العمل على تقليل النصاب التدريسي ليكون كحد أعلى 15 حصة تدريسية أسبوعيا، ويكمل نصابه الزمني في المشاركة بمناشط المدرسة وحصص الاحتياط والتحضير لدروسه، وعمليات التقييم المستمر لطلابه، فكثير منا لا يدرك حجم الصعوبة في تقديم حصة دراسية واحدة نموذجية يراعي فيها المعلم الإعداد والتحضير الجيد ويشرح فيها المحتوى المعرفي المناسب، ويقوم فيها بعمليات إدارة الصف الدراسي، وتقييم الأعمال المصاحبة في الحصة الدراسية مع تنوع واختلاف الطلاب وتمايزهم في التفاعل والاستجابة للعملية التدريسية.

3 - تخفيض عدد الطلاب في الفصول الدراسية بحيث لا يتجاوز عدد الطلاب في الفصل 20 طالبا، إذا ما أردنا من المعلم تحقيق نواتج التعلم المطلوبة بكفاءة وفاعلية عالية.

البيئة المدرسية

وعلى مستوى البيئة المدرسية تبقى مدارسنا بتصاميمها وتجهيزاتها الحالية معوقا كبيرا في الارتقاء بمستوى التعليم العام، وفي صقل شخصية الطلاب العلمية والاجتماعية والصحية، ومؤثرة على راحة المعلم والطالب وفاعليتهم في استخراج طاقاتهم الكلية، ونحن بحاجة إلى تصميم المدارس بطريقة مختلفة من حيث المساحات الوافرة في الفصول الدراسية، والتجهيزات التقنية والمكتبة والساحات والحدائق الصغير المزروعة، والصالات والملاعب الرياضية والمسارح الراقية ومكاتب المعلمين واستراحاتهم الخاصة، بما يجعلها بيئة جاذبة حتى وإن طال اليوم الدراسي، كآلية تطويرية لنظامنا التعليمي في المستقبل، وبما يسهل عملية التوجه نحو استثمار المدارس في الفترة المسائية للبرامج والأنشطة المجتمعية في الأحياء.

وهنا نود الإشارة إلى وجود بعض المخاطر والتهديدات التي تواجهها قيادات وزارة التعليم على اختلاف مستوياته في عملية التطوير النوعي للتعليم العام، والتي يجب التعامل معها بموضوعية وعدم مبالغة فيها أو على الأقل الحد من آثارها، وأهمها الترشيد في الإنفاق بحجة كفاءة الإنفاق، وكلاهما مفهومان مختلفان، فالترشيد سيحدث تلقائيا عندما نحسن الكفاءة في الإنفاق على أوجه التعليم، ويجب ألا يكون الترشيد هدفا في حد ذاته بقدر ما هو حسن استثمار الموارد المتوفرة، مع الأخذ في الاعتبار أن قطاع التعليم يستحق الإنفاق الكبير لكونه القطاع الأكثر أثرا على قطاعات الدولة الأخرى.

ومن المخاطر أيضا كثرة المشروعات والمبادرات التطويرية لمختلف عناصر العملية التعليمية، دون مشاركة حقيقية وواسعة من العاملين في الميدان التربوي، وعدم أخذ الوقت الكافي لتطبيق تلك المبادرات وتقييمها بشكل موضوعي قبل استبدالها بمبادرات أخرى، باعتبار مشروعات التعليم بطيئة الأثر، وقد لا تظهر فوائدها قبل مرور سنوات عديدة، وأخيرا أهمية تخفيف الأعباء الإدارية عن المعلم فيما يخص متطلبات التطوير التي يمكن صياغتها في نماذج محددة وقصيرة وسهلة، وفي فترات محددة من العام الدراسي ليتفرغ المعلم لعمله المهني الفني.

ختاما، إن تحقيق مستويات متقدمة في الاختبارات الدولية مرهون بتطوير وتجويد المعلم بالدرجة الأولى من حيث كفاءته المهنية، مع الأخذ بالأسباب التي تعزز دافعيته نحو العمل المهني لينظر للتعليم على أنه رسالة وليس وظيفة، وهو التحدي الأكبر للوصول إلى تعليم من أجل الحياة.