مرزوق تنباك

طبيعة الرجال الصادقين

الثلاثاء - 10 ديسمبر 2019

Tue - 10 Dec 2019

جاء كما هو لا يقرأ ولا يكتب، يافعا في أول سني الشباب المبكر ليس معه غير الأمل في البحث عن حياة أفضل وموطن أكرم وطلب لتغيير الحال والمآل إلى ما هو أفضل، والاستعداد الذاتي الصلب الذي خلق به لخوض غمار الحياة القاسية التي عاشها وفتح عينيه عليها وعلى أقسى الأيام ليست عليه وحده لكن على العالم كله، حيث دقت الحرب العالمية الثانية طبولها في فاتحة حياته، وكانت قسوتها عليه وعلى الناس كافة، حرب لا تخص بلدا ولكنها تعم جميع البلاد.

جاء إلينا بكل عنفوان الشباب وصلابة الرجال، لم يزعم أنه ولد في أحواش المدينة المنورة، ولم يدع أنه ابن حارات مكة، ولا من أهل حي البغدادية ولا الصحيفة، ليس شيء من هذا يعنيه أو يفكر به، ولم يزعم أيضا أن أجداده وأصوله البعيدة هاجرت من جزيرة العرب لتكون عودته إليها مبررة ولو ببعض الأوهام التي تدور في رؤوس كثير من أمثاله القادمين إلى الحياة الجديدة في الجزيرة والمستميتين بالانتماء إليها، ولم يتوسل بتشابه الأسماء والعوائل والأسر ليقول إنني من هنا كما زعم غيره وهم كثير، حتى عندما أصبح مواطنا لم يزعم شيئا مما ذكر أعلاه، ولم يحاول أن يدلس على بدايته ومنتهاه.

حاضر في ناد من النوادي الأدبية عند بداية نشاطها المنبري قبل كتابته لسيرته الذاتية وقبل أكثر من 30 عاما أعطى مقدم المحاضرة ورقة حملت مكان الميلاد ووطن النشأة الأولى ولم يخف شيئا، وكان من الحاضرين الأستاذ حسين زيدان رحمهما الله، فقام الأستاذ زيدان معقبا على المحاضر والمحاضرة فقال (كنت أظن أن محاضرنا الكريم سيقول ولدت في المدينة المنورة وترعرعت في رحابها كما يفعل غيره أو في مكة وجدة لأنه أصبح ابنا بارا من أبناء الحجاز وأهله، وله الحق أن يقول ذلك فقد صنع الحجاز ثقافته وتربيته واحتضنه وعاش فيه وأعطاه جهده وثقافته، ولكن الرجل أبى إلا أن يكون كما هو وكما نعرفه وهذه طبيعة الأقوياء الصادقين).

وأنا أنقل كلمة الأستاذ زيدان هنا في المعنى وليس النص الحرفي، لبعد العهد بها، لكنني لم أنسها أو لم أنس فحواها منذ تلك المدة الطويلة.

من هو هذا الرجل؟ إنه ذلكم الطود الثقافي الشامخ الذي قرأتم منذ أوائل هذا الأسبوع نعيه ورأيتم ما سطرته أقلام أبناء هذه البلاد العزيزة التي هي مهد العرب وموئل العروبة من الحب له والاعتراف بريادته وتقدير جهوده.

بكى الجميع على الأستاذ عبدالفتاح أبومدين، وذكروا مناقبه وأعلنوا فضائله وشكروا ما قدمه للعلم والفكر والثقافة كأحد أبناء هذا الوطن، كان الراحل منارة ثقافية بارزة صب جهده وفكره ومساهماته في قالب الثقافة التي خلق لها وكان من أربابها

تربى على أدبه جيل من الشباب أبناء الوطن المخلصين الذين عرفوا فضله ولم يسألوا عن مكان الميلاد ولا عن الوطن الأول، هذه الأوهام التي تعشش في رؤوس العوام وأشباه العوام؛ عن المنشأ والميلاد، تجاوزها الوطن منذ وحدته الكبرى واجتماعه المبارك واختياره المواطنة والوطن على دعاة الإقليمية والطائفية، وتجاوزها مثقفو البلاد كما تجاوزها الأستاذ أبومدين رحمه الله، فلم تكن هما من همومه ولا شأنا من شؤونه، كان شأنه الأسمى أن يخدم الثقافة المشتركة ويتفاعل مع الهم العام ويكون ابن الوطن البار والمخلص.

يرحل أبومدين عنا إلى رضوان الله ورحمته وكل مثقف له معه ذكريات وموقف ورأي كل مثقف قال عن أبومدين المواطن الذي قدم مواهبه وملكات عقله وعواطفه الصادقة لخدمة وطنه وأبنائه، فنال حب الجميع وصداقة الأدباء وتقدير الجهود التي قدمها، وشعر بفقده الناس وأعربوا عن أسفهم على رحيله وفراقه. غفر الله لأبي وديع وأنزله منازل الصالحين.

Mtenback@