شاهر النهاري

الذكاء الاصطناعي والعفاريت

الاثنين - 09 ديسمبر 2019

Mon - 09 Dec 2019

طوال العصور المنصرمة، والحضارات المتعاقبة، ومع محاولات البشرية الأولى لفك طلاسم الكون العصية، ومن خلال المعتقدات البدائية والسماوية، كان مفهوم الجن يظهر ليفسر أعتى وأغرب القصص والأساطير العصية على الفهم.

كل حضارة لها تفسيراتها، وكل غموض له من يحاول فك طلاسمه بعلم، أو بتحايل الذكي على أصحاب العقول البسيطة، وبما لا يحيطون به ولا يفقهون، حتى إننا اليوم وحين الحديث عن الذكاء الاصطناعي نكاد نشاهد ونسمع مثل ما كان يشاع في تلك العصور عن إعجاز وتميز في امتلاك خدمات الجن.

وعند التمعن في بعض السرديات والأساطير وبعض المنجزات العتيقة، لا بد من حضور مفهوم الجن المردة، كون العمل الذي يفوق قدرة الإنسان يحتاج لمحرك عظيم غامض يصنعه ويحركه، ويظهر مناطق الإعجاز فيه.

الأهرام وطريقة بنائها التي أعجزت البشرية حتى وقتنا الحالي في الإحاطة بهندستها وإعجازها، يجعل البعض يفكر في الجن وقدراتهم.

والجن بالمناسبة لفظ مأخوذ من الشيء الخفي على العين والإدراك بالحواس.

بعض القدرات التي حكتها لنا السرديات القديمة، من تغيير حال إلى حال ونقل سريع في الأمكنة، وتحقيق للأمنيات يجعل العفاريت حاضرة في المخيلة.

بعض الأساطير مثل بوابة مغارة افتح يا سمسم، تؤكد في الزمن الماضي وجود الجني الحارس المتحكم.

خروج المارد من القمقم المطمور في عمق البحر، والطلبات الثلاثة والسفر بين البلدان بسرعة البصر هي صور الجن.

جنية سندريلا، وتبديل الحال بلمسات سحرية، وتقليص زمن الذهاب والعودة بالثواني، وتغيير المخلوقات الصغيرة إلى شخوص وحراس وعربة ومقتنيات ذهبية وحذاء زجاجي لا يقبل أن ترتديه إلا قدم صاحبته، تعني الجن.

كل ذلك كان في الزمن الماضي، ولكننا اليوم بالعلم نقلب مفاهيم الجن إلى حقيقة وجود متمثل في الذكاء الاصطناعي الذي يحرك السواكن، ويجعل الأدوات تنطق وتتحرك وتفكر وتبني وتدير المصانع، وتنتج أكثر بكثير مما كان ينتجه آلاف من البشر، وفي لمحة العين.

الذكاء الاصطناعي الحالي حمل البشر عبر المحيطات، وطار بهم جماعات وأحمالا للفضاء والقمر، وساعدهم في بناء المصانع والمختبرات والأسلحة المنتشرة على وجه الأرض من القطب، إلى عميق المحيطات.

الذكاء الاصطناعي سهل الحياة في منازلنا، وفتح الأبواب وحصنها، وميز شخصية البشر بلمسته وصوته، وحدقة عينيه بدقة لا يشابهها حتى حكايات الجن.

الذكاء الاصطناعي دخل دقائق جسد الإنسان، من شريان دقيق يعالج ويعدل، ويبني، ويعيد ترتيب الخلايا وينقيها.

الذكاء الاصطناعي استطاع تطويع وتطوير كل العلوم، وإثبات عسير النظريات، وخلق أرضا تختلف في كل معطياتها المبتكرة.

ولكن الذكاء الاصطناعي الشبيه بأفعال الجن تمكن من الذهاب بعيدا عن صانعه الإنسان، فقامت بعض البرامج بتطوير ذاتها، وإنتاج لغة خفية مبتكرة كما حدث مع أنظمة شركة فيس بوك.

الذكاء الاصطناعي خطورة لا توازيها إلا خطورة مفهوم الجن، والتي أبقت البشرية في السابق حائرة بدهشتها، والبشرية الحالية تصبح غير قادرة على تفسير ما يحدث حولنا، والفرق أننا هذه المرة لن نتهم الجن، لأن لدينا متهما جديدا مع سبق الإصرار والترصد، وبمساعدة بشر يخدعون أنفسهم بحجة التطوير، وقد آن للبشرية أن تتنبه، قبل أن يدخلها الذكاء الاصطناعي لمتاهات الخوف والغموض، ولا يعود لنا مخرج ولا نقطة عودة.