عبدالحليم البراك

لذة الغموض

الاثنين - 09 ديسمبر 2019

Mon - 09 Dec 2019

«أنت غامض»! هذه العبارة ليست شرا محضا، وليست رذيلة متفقا عليها، وليست من الكلمات التي تصنف بالسوء التام. نعم إنها تأتي في جانب عدم الثقة في حال مفاوضة، أو عدم شفافية في المواقف وهي سلبية نسبيا، لكنها في أحايين أخرى تبدو جزءا من لذة الحياة، حتى قيل «إن المرأة تحب الرجل الغامض»، فهي تعشق المفاجأة ولا تحب الرتابة، وعندما تعرف كل شيء عن فارسها، فإنها تبدأ تراه شيئا عاديا، وبعيدا عن أسطورة، ماذا تحب المرأة وماذا تعشق وماذا يروق لها؟ تلك الجمل التي تتردد في عقول الرجال، لنتركها جانبا ونتجه للغموض والإنسان!

عاش الإنسان يرسم صورة لطيفة للقمر، ذلك المستدير، صاحب الظهور الشهري الرتيب الغريب الغامض، إنه يظهر في ليالي العشاق وكأنه الساعة التي تدق ليحضر اللقاء، وهو وجه الحبيبة، وهو البعيد القريب، وهو العالم الذي تحدث عنه الشعراء والفلكيون وغيرهم، حتى ذهب الأمريكان للقمر، وأحضروا لنا حجرا من هناك، فذهب غموض القمر، ليحل محله مكان يكاد يكون عديم الجاذبية، فلا استقرار فيه، ولا ماء فيه ولا حياة، بل إن نوره هو انعكاس لشيء آخر، أكثر إثارة منه وهو الشمس، وهي أكثر عظمة منه. إن ضوء القمر انعكاس لأشعة الشمس لا أكثر، فكأنما ذهب غموضه وراحت هيبته، وقلل العشاق من الوصل به تشبيها، بل يكاد يختفي أثره في الشعر الحديث، حتى إني لا أحنث لو حلفت أن محمود درويش لم يقل شيئا في القمر، والسبب الأمريكان وأنوار المدينة التي لم تترك فرصة للناس ليروه ليلا أو نهارا!

وهذا يقودنا للذة غموض الحب ومستقبله، ولو عرف العشاق مستقبل الحب وكشفوا غموضه اللذيذ الذي عشقوه به، لما تحمسوا له، فالزيجات ليست كلها سعيدة، إلا أن العشق أول خطوة ما قبل الزواج، بل إن لذته فيه لما يستقبلك منه!

وللمستقبل غموض لذيذ أيضا، ولو عرفنا مستقبلنا لما تحمسنا له، فأنت نصف حماسك لبهجة ما لا تعرف من مستقبلك، فتخيل أنك تعرف مستقبلك وماذا ستكون، كيف سيكون اجتهادك في العمل؟ أو في مشروعك أو في حياتك، أو حتى في تربية أولادك وأنت تعرف سلفا شكل تربيتهم وأخلاقهم وتعليمهم، بل لولا دهشة العلم، واكتشافاته ودخوله عالم الغموض المستقبلي لأصبح العلم لا علما، فلا علم بلا دهشة ولا علم بلا لغز، ولا علم بلا إشكالية يعمل الإنسان على حلها ليكون مستقبله الغامض أحلى!

حتى السفر له لذة الغموض، تخيل أنك تعرف كل شيء عن المدينة التي تنوي السفر إليها، تعرف شوارع المدينة قبل أن تصلها، وتعرف كل شيء عن آثارها كأنك جلست فيها قبل أن تمتع عينيك بها، لدرجة أنك تكاد تلمسها قبل أن تركب الطائرة إليها!

كنا سابقا نسافر بدهشة غير مسبوقة عن ثقافة الشعوب، ثم نعود بدهشة الحديث عنها، أما الآن، فإن تحدثنا عن الصين فكثير منا سافر إليها فلا دهشة في السفر إليها، وإن لم يسافر أحدنا فشاهدنا أكل الصينيين في المشاهد التلفزيونية وفضاء النت ومقاطع مواقع التواصل الاجتماعي، فعرفنا كل شيء عنها قبل أن نسافر إليها، وإذا عدنا منها بعد سفر قصير إليها تحدثنا عنها أكثر لمن لم يسافر إليها فنفسد لذة الدهشة فيها.

للغموض لذة لا يعرفها إلا الصغار، فاحتفظوا بقليل من الغموض لمزيد من الدهشة والفرح، فكل كتاب مفتوح نظرت إليه ألف عين وقالت أعرفه حتى لو لم تعرفه!

Halemalbaarrak@