محمد أحمد بابا

يجعلون من الحبة قبة برلمان

السبت - 07 ديسمبر 2019

Sat - 07 Dec 2019

في ردهات القاعات الكبيرة التي تضم النخب الاستشارية البرلمانية والشورية والشعبية تكبر صغائر الأمور وتعظم دقائق النتائج، وتصير المشكلات عجينا سلسا في أيدي المتمسكين بحقوقهم الدستورية والمجلسية، ولا بد أن تظهر في أغلب المجالس ظاهرة الجدال والنقاش، بل والصراخ على اختلاف مسميات تلك اللجان وأنظمتها في الحكومات والدول.

ما اعتاد عليه الموغلون في تتبع توافه اللوازم ودقائق التوافه ـ مثلي ـ هو ما أسمعه في برلماناتنا العربية عند إيراد خبر يخصها أو إبداء نزاع لا طائل من ورائه فيها، ففي أكثر الأوقات أسمع كلمة (قبة) في بداية الخبر أو وسطه أو نهايته، حيث يتقن المذيعون جملة (تحت قبة البرلمان أو مجلس كذا).

هذه الكلمة وأبعادها الهندسية القديمة لها دلالتها الواضحة على الشكل نصف الكروي في المباني عبر التراث القديم، وما أعتقده وغيري من ارتباط بناية القِباب وتصميمها واختيارها بالمرجعية الدينية أو الأيديولوجية للشعوب، كل ذلك شوائب تجعلني أربط بين (الحبة) و(القبة).

فالمثل السائد الذي يحكي اختلاف نوعية التكبير لدى الناس وفق نظرتهم للأحداث والأمور (يجعل من الحبة قبة)، بل ويأخذ البعض على عواتقهم أن يجعلوا من ربع الحبة مئة قبة يزينون بها فصول المسرحيات الهزلية والمأساوية في السواد الأعظم من المجالس البرلمانية والاستشارية الصورية.

وعلى العكس تماما، ورغم وجود كثير من القضايا العالقة التي تستحق البحث والتفكير والنظر والمساءلة، إلا أنها تتضاءل في قبة البرلمان ولا تكاد ترى بعين مجردة ولا حتى مكبر رؤية أو صوت، والسبب في ذلك يعود لأن البداية لم تكن سليمة بالنسبة للشرعية العوجاء التي تنتهجها برلمانات موقرة.

وقاعدة القول في عصر التباحث الصوري هذا هو أن يُنتزع الحوار انتزاعا وتعلو الأصوات انتهازا وتؤخذ الدنيا غِلابا، وتصير الحبوب الصغيرة أشوِلة لتصبح قبابا صالحة للنظر والبحث والتنقيح على أيدي الخبراء والاستشاريين والنواب، أما أن تكون اللقمة سائغة وجاهزة كقضية تصم الآذان وتسد الأفق وضوحا وجلاء يجدر بهؤلاء القوم أن يتدخلوا في حلها فهذا من عاشر مستحيلات الدنيا، إذ كيف يفرحون بجهدهم في جعل الحبة قبة والحال هو هذا!

وعبر تجولي بعيني في الفروق بين تصاميم المباني الرسمية قديما وحديثا وشرقا وغربا لكل ما يعني قضية البرلمان والتجمع للنقاش تمثيلا لما يُزعم أنه سلطة تشريعية في العالم الثالث، وجدت أن غالبه لا يخرج عن نمطية القباب أو شبيه بها، فبعض مباني مجالس الشعب أو الشورى أو الأمة تأخذ طرازا إسلاميا يحاكي المساجد والجوامع بكثرة القباب المتجاورة ترنو بعيونها لقبة البرلمان الكبيرة التي بُليَت بأن تظل هي المستمع الوحيد لما يُهْذَى به تحتها.

وبعض مباني المؤسسات التشريعية تلك تحاول أن تكون حضارية في بنائها منسجمة مع الجديد في العمارة والتشييد لكنها تضطر لأن تُعْلي بناء في أحد أروقة المبنى الأساسي ليصبح هو قبة البرلمان أو المجلس الأصلية تمارس فيه جميع أنواع رفع الأصوات أو خفضها أو ترددها.

من ذلك فهمتُ أن تلك الحبة التي دخلت المجلس وهي حبة لا يمكن أن تصبح قبة إلا في مجال رحب تتشكل داخلة وفق تصميمه وتردداته، ولا أصلَحَ لهذه الغاية سوى قبة البرلمان أو الهيلمان، وفهمت أيضا أن نظام القبة واستدارتها وتجويفها يسمح بامتصاص كمّ كبير من الأصوات والضوضاء المزعجة للذين هم خارج قبة المجلس وينظرون لهؤلاء النفر أنهم في مرحلة تقاعد خمس نجوم أو دار عجزة للأثرياء.

يا لها من قبة تاريخية ذات أغراض متعددة، الداخل فيها مفقود، يسافر عن هذه الدنيا، والخارج منها مفقود مفقود مفقود يا عالمنا العربي، فتحول الحبة إلى قبة لم يهيئ بيئة ولا أرضية صالحة لانطلاق التشاور والتشريع الحقيقي في المشاكل المصيرية والهامة، بل ساهم في أن يكون مرض التضخم الذي يصيب الاقتصاد يصيب الملفات الشكلية أيضا، وكل هذا بحجة واحدة هي دعوى حرية الممارسة الدستورية الديموقراطية الواهية، لمجرد الرغبة في هواية الاعتراض والاستعراض والتعرض، وسبحان ربي جعل لكل قوم قبة ومنهاجا.