فيصل الشمري

تقييم الوجود الإقليمي الأمريكي

السبت - 30 نوفمبر 2019

Sat - 30 Nov 2019

إن الانسحاب الأمريكي من الحدود المشتركة بين تركيا وسوريا قد أسفر عن ظهور مجموعة كبيرة من الاستجابات.

ومن المؤكد أنها قد جلبت رسالة موحدة من مجموعة من الأصوات التي غالبا لا تتفق على شيء موحد. وفي بعض الدوائر وصفت بأنها طعنة في الخلف أو عملية تخل عن حلفائها. وذهب آخرون، سواء كانوا أجانب أو محليين، إلى أبعد من ذلك، ليتساءلوا عما إذا كانت كلمة واشنطن موثوقة أو جديرة بالثقة. كما أن هناك شعورا بالسخرية تجاه عدد من هؤلاء الذين كانوا الأكثر صخبا في لهجة الدفاع عن سوريا.

أما بالنسبة لداخل واشنطن فإن بعض أعضاء مجلس الشيوخ وممثلي البنتاجون الذين كانوا أكثر المؤيدين حدة لحرب العراق عام 2003 منزعجون من هذا التحرك. ثم هناك أعضاء في مجلس الشيوخ ومعاونوهم السياسيون المتنوعون الذين أيدوا الانسحاب من العراق، فتخلوا عن الاستقرار الهش الذي تم الحصول عليه، فتخلوا بالتالي عن البلاد وتركوها مُهلَكة في نهاية المطاف من قبل الميليشيات الإيرانية بالوكالة، وفرق الموت الطائفية، وتنظيم داعش. هم أيضا منزعجون من هذه الحركة.

ومن المثير للاهتمام أن كثيرا من مؤيدي حرب العراق عام 2003 وأولئك الذين ناصروا الانسحاب من العراق وجدوا قضية مشتركة في تأييد شامل للحرب الليبية التي تركت الدولة الكبيرة شمال أفريقيا في حالة من الفوضى حتى يومنا هذا، في حين رفض بعض أولئك الذين دافعوا عن الحرب الليبية بشدة دعم الشعب السوري عندما بدأت الانتفاضات الأولية ضد بشار الأسد عام 2014. هل يعني هذا أن الولايات المتحدة «تتخلى» عن حلفائها في الشرق الأوسط؟ هل تنسحب واشنطن من المنطقة حتى يتمكن شخص آخر من ملء الفراغ؟

إن الولايات المتحدة الأمريكية تشهد حاليا زيادة كبيرة في عدد الأفراد والمعدات في المنطقة. وفي الوقت الراهن هناك نحو 17 ألف جندي إضافي في الشرق الأوسط منذ العام الماضي في هذا الوقت. تتمركز القاذفات الاستراتيجية ومن ضمنها B-52 في المنطقة. وأكثر من ذلك، تتمركز بطاريات صواريخ باتريوت في الدول الحليفة، في حين يجري وضع أجهزة اعتراض الصواريخ THADD أيضا لتوفير خط الدفاع الأول ضد الهجمات الصاروخية الباليستية، حيث تنبعث مصادر هذا التهديد من ميليشيات الوكالة الإيرانية داخل اليمن والعراق.

صواريخ THADD موجودة للتعامل مع الهجمات المحتملة التي قد تنشأ من إيران في حالة حدوث ذلك. ويجري بناء مزيد من القواعد بينما يجري تشغيل قواعد أخرى لم تستخدم مؤخرا. ولا يزال الأسطول البحري الخامس للولايات المتحدة الذي تمركز في البحرين هو الحكم الأعلى الذي لا جدال فيه بالنسبة لأي من المسائل البحرية في الخليج العربي وخليج عمان. وحتى يومنا هذا لا يطعن في وجودها.

ورغم الجدل في بعض الدوائر ساعدت واشنطن جهود مجلس التعاون الخليجي في اليمن من اللوجستيات إلى استهداف القوات المعارضة لحكومة الرئيس اليمني هادي الشرعية والمعترف بها دوليا. وفي البحر الأبيض المتوسط تمتلك البحرية الأمريكية أيضا القدرة على التدخل بشكل حاسم في ليبيا وسوريا إذا اختارت ذلك. وعلى الرغم من تجدد الوجود الروسي في طرطوس وقيمته القتالية المؤكدة لحاملة الطائرات الروسية الوحيدة والمصاحبة لها بدمشق، إلا أنه تتم تغطيتها عن كثب بواسطة مجموعة كبيرة من قوارب السحب والسفن الداعمة للمساعدة في حالة حدوث أعطال غير شائعة أثناء العبور. فالبراعة الأمريكية والمهارة التكتيكية المتفوقة على كل المستويات تتمتع بأعلى درجات الكفاءة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، والبحر الأحمر، والخليج العربي، والمحيط الهندي. وعلى هذا فإن الزعم بأن «التخلي» عن الحلفاء أو عدم الثقة في أمريكا يصبح مجرد ادعاء أجوف أمام الحقائق الملموسة.

هل تتخلى الولايات المتحدة عن المنطقة إذن؟ كما رأينا في السؤال السابق من وجهة نظر عسكرية فإن الإجابة هي «كلا بكل تأكيد»، حيث كان «الربيع العربي» الحقيقي الأول عام 1956 وكانت الولايات المتحدة موجودة بقوة في المنطقة في ذلك الوقت، وقبل ذلك. فقد ذهب جنود المشاة البحرية الأمريكية إلى بيروت للمرة الأولى عام 1956، وليس في ثمانينات القرن العشرين. ومن منظور استخباراتي، كانت واشنطن متأصلة بعمق في نسيج المنطقة منذ اختتام مؤتمر القاهرة عام 1944. واليوم تقيم واشنطن شراكات مع أجهزة الاستخبارات في المنطقة وهو ما يحمل قيمة تنافسية لما تنجزه مع شركائها الآسيويين والأوروبيين.

وفي تدريب وإعادة تنظيم أجهزة الأمن المحلية وعمليات جمع الاستخبارات الأجنبية، فإن حكومات المنطقة تتحول إلى الولايات المتحدة وليس لروسيا أو الصين. وما زالت المعدات العسكرية الأمريكية تحتل أعلى القائمة فيما يتصل بالمعدات الأكثر جاذبية، ليس بسبب جودتها فحسب، بل لأنها أيضا توفر للمستخدمين أفضل فرصة لإعادتهم بأمان إلى الجبهة الأم بعد انتهاء المعارك. وقد تدربت أجيال من ضباط الشرق الأوسط في الولايات المتحدة وقاتلوا بين صفوف طياري الجبهة وضباط المشاة. وعلاوة على ذلك، فإن واشنطن، من وجهة نظر المعاهدة والتحالف، مُلزمة قانونيا تجاه مجموعة واسعة من الشركاء الاستراتيجيين في جميع أنحاء المنطقة. ومن منظور القوة الناعمة (Twitter وFacebook) باعتبارهما المنصتان المسيطرتان على وسائل التواصل الاجتماعي المستخدمة من خلال Google كمحرك بحث آمن، فإن الهواتف الذكية التي تقدمها شركة أبل هي الأكثر مبيعا، ونحو 90 % من جميع الأسر في الشرق الأوسط لديها منتجات جونسون آند جونسون أو بروكتور وجامبل داخل منازلهم، ولا يوجد أي بلد آخر على كوكب الأرض يمكنه توفير هذا الوجود في المنطقة. لهذا فإنه لم يحدث أي إخلاء ولا التخلي عن المنطقة، وتشير الأدلة الحالية إلى أن وجودها في المنطقة ربما يزداد عمقا.