شاهر النهاري

من يقطع ومن يوصّل المستقبل

الاثنين - 25 نوفمبر 2019

Mon - 25 Nov 2019

في السياسة ضروب من العلاقات المتداخلة المفرحة المرعبة، تشابه السير فوق خيوط العنكبوت، لا صداقة دائمة، ولا عداء مستمرا.

والسياسة قد تكون قائمة على الجوار المنطقي، وقد يكون فيها تلاحم عرقي شعبي، وقد تكون فيها علاقات تاريخية واقتصادية وسياسية أو عسكرية، يمكن وضعها في الحسبان عند دراسة مسار علاقات الدول ببعضها.

والطاغي على تلك العلاقات وهو المؤثر الأعظم، يكمن في المصالح المشتركة التي قد تكون سهلة واضحة بفعل منتوج العوامل الأخرى، وقد تسوء وتعتم، وقد تتعقد بتغيرات تطرأ على أجهزة النظام في أحد أو كلا الطرفين، مما يجعل الأمور الأولية من تواصل شعبي واقتصادي وعسكري تتبدل، وتتسبب في صنع علاقات جديدة بين البلدين غالبا ما تكون أكثر حيطة وشدة ومكرا، وقد تبلغ حدود الحشد الإعلامي والاستخباراتي والدبلوماسي، وقد تبلغ ما هو أعظم من قطيعة في نقاط التواصل القديمة، تبعا لنوع وشدة الأسباب وتقطع السبل في الإصلاح، مما قد يتحدر بالعلاقات إلى مناطق مظلمة أبعد وأكثر وحشة وتلويحا بالعداء، وربما نشوب الحروب.

كل تلك الظروف مهما تأصلت وتقاربت ومهما أصبحت مضمونة لا يمكن الوثوق بها عند تبدل الحالة السياسية، والتي تتحكم سريعا في البعد والقرب والتوسط.

بعض الدول تثبت لجيرتها وللعالم بأنها متفردة في اختيار وتبرير القرب أو البعد، والبعض منها تثبت توسطها فلا علاقات ود مبالغ فيها، ولا نية على غدر وعداء، وهنالك أوطان تمد أياديها بالسلام والخير والطيبة والسعي للإصلاح مهما ساءت الظروف. بينما تثبت بعض الدول أنها مغارة ألغاز تتفتح بواباتها على خيانات ونوايا على الغدر كلما طال الطريق وتنازل أو غفل الحبيب.

إذن فلا ديمومة لسلام ولا لعداء، ولا أمن من غدر، مما يستوجب من جميع الدول عدم تعميم نظرياتها في الإبقاء على الأصدقاء، والحذر من التمادي أو التغول في الظنون والشكوك.

الوسطية وعدم الانقياد طريق قويم، والمصالح لا يجب أن تكون المسار الأعظم، فالصديق القوي لا يجب أن يستغل ضعف صديقه، والصديق الذكي لا يجب أن يظهر غباء صديقه، بمشيئة الحكمة والوضوح والترقية المشتركة، وسد الثغرات بالعقل والثقة.

من يأتون ويذهبون عن السلطة قد يمثلون الدول في زمن وظرف معينين، ولكن نظراتهم لا يمكن أن تكون مثالا يحتذى من قبل الأجيال القادمة، ما لم تكن مقنعة بحكمتها للشعب الذي وثق بقدراتها، وأعطاها الحرية الكاملة في كتابة الواقع المعاش بين الجيرة بحبر يستشرف المستقبل ويحترم الماضي، ويتوازن في تبرير الحاضر بكل ثغراته.

الشعب التركي على سبيل المثال ليسوا هم قيادتهم الحالية التوسعية، والشعب الإيراني ليسوا جميعا خبث ما يخطط له النظام الثوري في طهران.

وكل الدول اللصيقة بنا لا يمكن قياس مشاعر الجيرة عند شعوبها بمجرد قراءة منتوج حكوماتها الحالية، بمعرفة أن السياسة دوما تفسد للود قضية، ولا يمكن إصلاحها إلا من خلال الرؤية البعيدة المدى التي لا تشعلها جمرة ولا تطفئها حفنة ماء.

السياسة فن القادة القادرين، العارفين، المتأنين، البانين لأسس دولهم، ليس بالطوب الذي لا يقبل التغيير ويحتاج للكسر بين حين وآخر، بل بالحديد المطاوع الذي يمثل الصلابة لكنه لا يكسر ببرودة أو حرارة طارئتين.

والدول تبنى من الداخل بأعظم مونة عرفتها الكرة الأرضية على مدى العصور، وهي نماء الإنسان ومبادئه، والاستثمار في عقول اليافعين والشباب، وفي أيديهم وفي محبتهم للثرى ومعرفتهم بأنفسهم وتاريخهم وحاضرهم، والوعي بما يطلبون في مستقبلهم، مهما تغير الصديق، ومهما تعقل العدو ودخل في هدنة أو تحين.