عبدالله المزهر

الاتفاق والمثقفون وحزن التماثيل!

سنابل موقوتة
سنابل موقوتة

الثلاثاء - 22 أكتوبر 2019

Tue - 22 Oct 2019

قرأت في هذه الصحيفة ـ الغراء بالطبع ـ أنه تم العثور على تمثال بالقرب من بلدة الكهفة (200 كلم جنوب حائل) يعود تاريخه لأكثر من 6 آلاف عام، وهو من القطع المعروضة في المتحف الوطني، والمختارة لمعرض «روائع آثار المملكة عبر العصور» الذي يتجول في أشهر المتاحف العالمية. الجديد في أمر هذا التمثال أنه يعبر عن ملامح الحزن في عينين غائرتين مليئتين بالأسى الشفيف، ويد تمتد نحو القلب كناية عن المعاناة.

والحقيقة أني من غير المهتمين بأمور التماثيل ولا تلفت نظري كثيرا ولست من هواة الاطلاع على الآثار و«مواعين» الأمم السابقة. لعدة أسباب من أهمها ـ كما يقول مقربون ـ أني «نفسية» ولا أنجذب كثيرا للجمال ـ بفتح الجيم وكسرها ـ وثانيها أني متعصب للحاضر، وأن وجود حضارة سابقة لا يعني لي شيئا كبيرا، فالأمة التي تقود العالم حاليا كانت إلى قبل بضع مئات من السنين مجموعة من المهاجرين القتلة تجار العبيد ولصوص الأراضي ـ وأرجو ألا يغضب مني قرائي الأمريكان ـ لكني على غير العادة وجدت نفسي منجذبا نحو هذا التمثال أتأمله وأحاول تخيل ما الأمر الذي أحزنه إلى هذا الحد، فحزنه يبدو صادقا، وهذا ما يجعله أطول حزن في التاريخ، حيث امتد لستة آلاف سنة.

وبدا لي أني أعرف هذا النوع من الأحزان، ربما كان هذا التمثال لشخص كان قبل ستة آلاف سنة يكتب في منتديات جادة ويناقش قضايا فكرية معقدة، ويدخل نقاشات تمتد لأسابيع حول فكرة فلسفية أو سياسية أو يناقش نصا أدبيا أو يحاول الدفاع عن أفكاره حين يجد من يشرحها ويناقشها ويهاجمها ويجعلها هباء منثورا دون شخصنة ولا حقد ولا كراهية. أو يقرأ ويتابع سجالات وصراعات بين أناس يعرفون ماذا يقرؤون وكيف يكتبون، ثم إن صاحب هذا التمثال بعد كل هذا وجد نفسه فجأة في مواقع التواصل الاجتماعي في ذلك الزمان يستمع ويقرأ الجدل الفكري والفلسفي بين «فيحان وملاك» وآخرين يجبن عن ذكر أسمائهم في مقال، ويدلي بدلوه في تلك القضايا المعقدة حينها. وربما أفنى حياته في الدفاع عن عقله، ثم وجد نفسه يسلمه فجأة للهاشتاقات المدفوعة والأخبار الموجهة وتجار أنصاف الحقائق.

ويبدو أن النحات قد نحت التمثال في وقت كان فيه صاحبه الحزين يكتب تغريدة في تويتر يحاول فيها إقناع أحد متابعيه أن الحديث عن الفكرة لا يعني تبنيها، وأن تبني فكرة لا يعني تبني كل أفكار قائلها. ويبدو من ملامح الحزن أن ذلك المتابع كان له عقل مصنوع من ذات المادة التي صنع منها التمثال.

وأحزان المثقفين الجادين هذه تشبه ـ إلى حد ما ـ أحزاني حين عدت بعد سنوات طويلة إلى الملعب الذي كنت ألعب فيه كرة القدم وأنا شاب يافع، ونزلت إلى الملعب الذي أعرفه لكني لا أعرف أحدا من اللاعبين، كان أغلبهم في طور «النطفة» حين لعبت في ذات الملعب للمرة الأخيرة، شعرت بالغربة في كل شيء، حتى باختلاف الشتائم التي تستخدم في الملعب.

وعلى أي حال..

وبمناسبة كرة القدم فقد خطر في ذهني للتو أني قد بالغت قليلا وشطح بي الخيال حول أسباب حزن ذلك التمثال، قد يكون كل ما في الأمر أنه كان أحد جماهير نادي الاتفاق في ذلك الزمان. وشعر بالحزن وهو يشاهد الفرق التي لم يكن يعرف أنها موجودة أصلا تفوز على فريقه وتهزمه في كل محفل.

agrni@