فلسفة التسامح
السبت - 12 أكتوبر 2019
Sat - 12 Oct 2019
أؤمن بأن نبينا عليه الصلاة والسلام قد أراد أن يؤكد مفهومه الحيوي الأخلاقي لقيمة التسامح حين توجه بسؤاله قريشا حال فتح مكة في العام الثامن للهجرة قائلا: ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ فأجابوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء؛ هكذا وبجملة واحدة أنهى النبي الكريم عقودا من العذاب والاضطهاد الذي عاشه وأصحابه في كنف قريش، فهل كان قراره نابعا من إيمان عميق بقيمة التسامح ومفهومه الخلقي الرفيع؟ أم رغبة في إنهاء حالة من الصراع بهدف البدء في مرحلة جديدة من العمل المشترك، والدفع بالدولة إلى أفق جديد؟
بمعنى: هل انطلق نبينا الأكرم في تسامحه مع قريش من قيمة أخلاقية محضة؟ أم من مفهوم حقوقي قانوني مؤداه فكرة تحقيق العدالة والمساواة؟
بالعودة إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم نجد أنه قد امتلك قبل هجرته ليثرب ناصية العقاب بإرادة من الله الذي بعث إليه بملك الجبال ليطبق على قريش الأخشبين، أي الجبلين وهما: جبل أبي قبيس، وجبل قُعَيقُعَان، لكن النبي أجاب بالامتناع راجيا أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا، هكذا جاء جوابه بسيطا، هادئا، نابعا من قلب صاف ليس فيه كره لأحد، حتى على من آذاه.
إنها حقيقة التسامح القيَميَّة التي تجلت أبعادها في فتح مكة، وهي الأساس لاهتمامه بإقرار الحقوق والواجبات بين الناس تحقيقا للعدل والحرية والمساواة، التي تشكل جميعها القاعد القانونية لقيمة التسامح، إذ يعرف التسامح اصطلاحا بأنه القدرة على العفو، وعدم رد الإساءة بالإساءة، والتحلي بالأخلاق الرفيعة، والابتعاد عما يفسد المجتمع من خلافات وصراعات، واحترام الثقافات والعقائد وقيم الآخرين، وبأن لكل فرد حقا يجب الإقرار به وعدم التعدي عليه.
العجيب في الأمر أن هذه الروح المحمدية لم تستمر ضمن إطار مفهومنا القيمي، حيث انحصرت أطر ومفاهيم التسامح على النطاق التطبيقي ضمن إطار المجتمع بشكل عام، خاصة من بعد انتهاء حقبة الخلفاء الراشدين، حيث ساد العنف في مجريات كثير من الأحداث، سواء على الصعيد المجتمعي أو الفكري، وتمثلت مظاهره في كثير من الأوصاف والنعوت كالوصف بالابتداع، والفسق، والزندقة، وصولا إلى الردة والكفر، وغيرها، والتي شكلت الصيغة الفقهية التي بموجبها تمت تصفية الآخر المختلف.
وواقع الحال أن الأمر لم يكن خاصا بالمسلمين وحسب، بل كان متعديا بعنف أكثر بين المسيحيين الذين لم يتقيدوا بتشريعات نبينا ونبيهم عيسى عليه السلام، المعروف بتسامحه اللا متناهي، فكان أن اندلعت كثير من الحروب البشعة بين طائفتي الكاثوليك والبروتستانت حتى عهد الملك هنري الرابع الذي عمل على رأب الصدع وإنهاء القتال الوحشي بينهما، باعتناقه المذهب الكاثوليكي عام 1593م أولا، وقبول البروتستانتيين لذلك، ثم إصداره عام 1598م مرسوم نانت الشهير الذي منح بموجبه الحرية الدينية للبروتستانت، وأقر لهم بالحقوق المدنية أسوة بالكاثوليك، ليتوالى الاهتمام بتكريس مفهوم التسامح ضمن الإطار الفكري لدى مختلف علماء التنوير في أوروبا، ومنهم البريطاني جون لوك الذي نشر عام 1689م رسالته «في التسامح»، مؤسسا لمفهوم الدولة المدنية، ثم ما لبث أن صدر في العام ذاته قانون التسامح البريطاني، كما تمثلت تلك القيم والمفاهيم في دستور الولايات المتحدة الأمريكية التي أكد دستورها أهمية التسامح الديني والفكري والسياسي والعرقي.
أخيرا، ما أكثر الشواهد الإيمانية الدالة على عظمة هذه القيمة، والمؤكدة لمنحاها الأخلاقي قبل كل شيء، ابتداء بتسامح هابيل المبدئي مع أخيه قابيل، ومرورا بتسامح نبي الله يوسف ومغفرته لظلم إخوته له، وليس آخرا بتسامح نبي الله عيسى الذي جاء عنه أنه قال»أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم». وصدق الله القائل في محكم كتابه «والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين».
@zash113
بمعنى: هل انطلق نبينا الأكرم في تسامحه مع قريش من قيمة أخلاقية محضة؟ أم من مفهوم حقوقي قانوني مؤداه فكرة تحقيق العدالة والمساواة؟
بالعودة إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم نجد أنه قد امتلك قبل هجرته ليثرب ناصية العقاب بإرادة من الله الذي بعث إليه بملك الجبال ليطبق على قريش الأخشبين، أي الجبلين وهما: جبل أبي قبيس، وجبل قُعَيقُعَان، لكن النبي أجاب بالامتناع راجيا أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا، هكذا جاء جوابه بسيطا، هادئا، نابعا من قلب صاف ليس فيه كره لأحد، حتى على من آذاه.
إنها حقيقة التسامح القيَميَّة التي تجلت أبعادها في فتح مكة، وهي الأساس لاهتمامه بإقرار الحقوق والواجبات بين الناس تحقيقا للعدل والحرية والمساواة، التي تشكل جميعها القاعد القانونية لقيمة التسامح، إذ يعرف التسامح اصطلاحا بأنه القدرة على العفو، وعدم رد الإساءة بالإساءة، والتحلي بالأخلاق الرفيعة، والابتعاد عما يفسد المجتمع من خلافات وصراعات، واحترام الثقافات والعقائد وقيم الآخرين، وبأن لكل فرد حقا يجب الإقرار به وعدم التعدي عليه.
العجيب في الأمر أن هذه الروح المحمدية لم تستمر ضمن إطار مفهومنا القيمي، حيث انحصرت أطر ومفاهيم التسامح على النطاق التطبيقي ضمن إطار المجتمع بشكل عام، خاصة من بعد انتهاء حقبة الخلفاء الراشدين، حيث ساد العنف في مجريات كثير من الأحداث، سواء على الصعيد المجتمعي أو الفكري، وتمثلت مظاهره في كثير من الأوصاف والنعوت كالوصف بالابتداع، والفسق، والزندقة، وصولا إلى الردة والكفر، وغيرها، والتي شكلت الصيغة الفقهية التي بموجبها تمت تصفية الآخر المختلف.
وواقع الحال أن الأمر لم يكن خاصا بالمسلمين وحسب، بل كان متعديا بعنف أكثر بين المسيحيين الذين لم يتقيدوا بتشريعات نبينا ونبيهم عيسى عليه السلام، المعروف بتسامحه اللا متناهي، فكان أن اندلعت كثير من الحروب البشعة بين طائفتي الكاثوليك والبروتستانت حتى عهد الملك هنري الرابع الذي عمل على رأب الصدع وإنهاء القتال الوحشي بينهما، باعتناقه المذهب الكاثوليكي عام 1593م أولا، وقبول البروتستانتيين لذلك، ثم إصداره عام 1598م مرسوم نانت الشهير الذي منح بموجبه الحرية الدينية للبروتستانت، وأقر لهم بالحقوق المدنية أسوة بالكاثوليك، ليتوالى الاهتمام بتكريس مفهوم التسامح ضمن الإطار الفكري لدى مختلف علماء التنوير في أوروبا، ومنهم البريطاني جون لوك الذي نشر عام 1689م رسالته «في التسامح»، مؤسسا لمفهوم الدولة المدنية، ثم ما لبث أن صدر في العام ذاته قانون التسامح البريطاني، كما تمثلت تلك القيم والمفاهيم في دستور الولايات المتحدة الأمريكية التي أكد دستورها أهمية التسامح الديني والفكري والسياسي والعرقي.
أخيرا، ما أكثر الشواهد الإيمانية الدالة على عظمة هذه القيمة، والمؤكدة لمنحاها الأخلاقي قبل كل شيء، ابتداء بتسامح هابيل المبدئي مع أخيه قابيل، ومرورا بتسامح نبي الله يوسف ومغفرته لظلم إخوته له، وليس آخرا بتسامح نبي الله عيسى الذي جاء عنه أنه قال»أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم». وصدق الله القائل في محكم كتابه «والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين».
@zash113