رغد أحمد القرشي

النقد التثويري.. رؤية في النقد الانطباعي

الخميس - 10 أكتوبر 2019

Thu - 10 Oct 2019

«الجمال هو الصدق والصدق هو الجمال، ذلك هو كل ما تحتاجه على سطح البسيطة وما تحتاج إلى معرفته». إن قول (كيتس john Keats) السابق هو ما قام عليه النقد قبل في صورته الانطباعية، حاملا مغنى (كيتس) منذ آلاف السنين، تلك الانطباعية التي تجذرت وامتدت باسقات وارفة، وهذه الوريفية ما زال ينبسط فيؤها حتى ساعتنا هذه.

إن الانطباع كان أرض النقد عند العرب، ذا مبعث وحيد، وأكل مختلف، فما كان مبعثه إلا شعور المرء أمام النظم الأدبي بأثر يتبعه رأي صادق عن منظومة من الأسس الفطرية والمكتسبة من تلك البيئة، أما وقد كانت الأرض آنذاك محتدمة بالجمال، فما ساعدها في ذلك منهج ولم تسندها قواعد، ولم ترفعها أسس، وهنا يكمن الفن بأصالته.

والفن في أزهى أوقاته ليطل علينا من نافذة واحدة هي التحرر واللا سلطة، أعني سلطة كل قاعدة وكل شرط يومئ للفن بتقييده عن تمام وظيفة من وظائفه، وحيث إن النقد فن لا علم، إذ هو يقف على مخابئ الجمال فيظهرها، ويكشف عن بديع الكلمة ستائرها، ويأخذ بيد الأدب كما هو في غايته ليحققها، لا يحبسه في ذلك إلا مقدار زمن الكلمة إذا انطبعت عن شعور، ونسجت في مقال ينم عن نباهة وفطنة وبيان، وبهذا كانت الانطباعية.

ولأن ما جاد من الشيء يبقى؛ فقد توشحت الانطباعية بردة العتيق الزاهي، فخرجت من وصف لظاهرة القديم إلى مسمى النقد الانطباعي أو (Impressionist criticism) في ساحة الجديد، وهو في تعبيره «بأن يقَدم العمل الأدبي تقديما جذابا، انطلاقا من تأثيره على الناقد»، لَيماثل ما كان عليه الأصل من قِدَم، إذ كان أبرز رواده العرب محمد مندور.

والحق أن الانطباعية هي قراءة القراء بصوت مسموع، ولحن مصيب، وإيقاع يأخذ بجانب جمال مختلف، وإن كان أسها وأساسها الطبع، فليست أي نفس تستطيع أن تخوض غمارها بكل شرف وحذاقة، إذ يلزم حيال ذلك أن تطلق العلامات من دون غرس، ويوحى بالحدود من غير حبس، وإلا لمرج كل هَفْت لا يبصر.

و إني أرى أنه كما للشعر والحديث رواة يمحَصون قبل الأخذ منهم، فكذلك الناقدون في شبه منهم، فالتذوق لا الذوق، والتمرس لا المراس، والتعكف لا العكف، والتروي والتفكر لا الروية والفكر هي عدة الناقد وعتاده، وتلك من أهم ما تحفل به الانطباعية على ما يظنها قوم أخطؤوا سبلها.

إن هلهلة الأشياء لا تصلح من الأمر شيئا، ولكي يبرع الناقد الانطباعي في نقده ويبقي على أصالة الانطباعية، فليثني الركب على كتب من خلف من قدماء المتذوقين، وليجالس جهابذة المتمرسين في هذا الفن، آخذا في ذلك بعدته الأولى والأَوْلى تلك، وليحفظ عليه طبْعَه في التأثر، ونظرَته إلى مكامن الجمال، ويده في حياكة كل ذلك إلى قراء نقده الأديب.

ألقتنا أوائل العشر الثانية من الألفية ذاتها إلى أوقات كنا فيها مع عدد من الأصدقاء نتناول أقوى تأثر وقر في أنفسنا إزاء الأبيات الشعرية في القصائد، وعلى أننا لا نعدو في كوننا أهيل ذوق، غير أني من حينها وأنا أرى أن الثمرة الذهبية خلف الانطباعية هي الاختلاف الحقيقي، إذ يتجلى نقد كل ناقد فيه متجردا عن كل تأثير وتقييد وفرض، إلى حيث هو هو، ونظرته النقدية الخالصة، كلٌ مختلفٌ في نتاجه، مؤمنون أن تفاوت ملكة الذوق الفطرية لترفع نتاجا عن آخر.

وفي هذا إعمالٌ لدور المتلقي الذي هو عمود القصد في هذه العملية، ليأتي خلف كل نقد انطباعي رأي يوافق عقلا ذا ذوق.

ولست آسف بعد كل هذا على كل الصراعات التي جعلت الانطباعية في صف العداء، وأسقطت عليها ثياب الهرم، وأسكنتها الرميم والهالك، مدعية أنها تخفي معالم النقد تهدمه وتأخذ به إلى ذاتية الأهواء، على أنها وهي المتجددة بتجدد كل عصر زمني بناقديه، لتؤرخ للزمن حقيقة أهله، ومحيطهم وبيئاتهم وسمة تناولهم لأدبهم آنذاك، وتخلص إلى زمن آنف قد أفاد من سالف فيثور نقده بخزائن المعرفة وعظيم الفكر والتأمل وهكذا دواليك، كما آمنت في ذلك قبل أن أقرأ للانسون (Gustave Lanson) في كتابه منهج في الأدب حين قال « فالرجل الذي يصف ما يشعر به عندما يقرأ كتابا مكتفيا بتقرير الأثر الذي تخلفه تلك القراءة في نفسه، يقدم بلا ريب للتاريخ الأدبي وثيقة قيمة نحن في حاجة ماسة إلى أمثالها مهما كثرت». فيا لعمري أي وجه تصيب هذه الانطباعية!

@raghad_q5