عبدالله المزهر

الشعوب المندسة!

سنابل موقوتة
سنابل موقوتة

الاحد - 06 أكتوبر 2019

Sun - 06 Oct 2019

أتابع ـ كما تفعلون جميعا ـ ما يحدث في العراق، وأصدقكم القول إني حاولت تجاهل الأمر مرارا لأسباب متعددة، من هذه الأسباب أني أحاول في السنوات الأخيرة ألا أرفع سقف توقعاتي كثيرا، لأن سقف التوقعات كلما ارتفع يكون ألمه أكثر حين يقع على رأسي، ورأسي قد امتلأ بالـ «فلعات» لكثرة ما وقعت عليه أسقف التوقعات المرتفعة.

السبب الثاني أني أريد أن أحافظ على سجلي نظيفا من دعم الثورات الشعبية، لأني في الغالب لا أحذف تغريداتي ولا أرائي حتى لو لم تعد تروق لي، أو لم تعد متوافقة مع المزاج العام، وأخشى بعد سنوات أن يهاجمني أولئك الذين يحذفون تغريداتهم ويغيرون مبادئهم سريعا، ويتهمونني بأني محرض سعيت في عام 2019 إلى تأجيج نار الفتنة في العراق الذي كان مستقرا إلى أن كتبت تغريدة أيدت فيه حق الناس أن يطالبوا بحياة أفضل.

أتابع الثورة العراقية الجديدة حتى أتعرف على المصطلحات التي ستستخدم فيها، فكل ثورة تأتي بمصطلحاتها حسب مكانها وثقافة شعبها (المندسين، البلطجية، الفلول، الشبيحة، الطرف الثالث.. إلخ) مع أن الفكرة العامة لأي ثورة وتسلسلها لا يتغير في كل مكان، وهي أن البسطاء المسحوقين الذين لم يعد لديهم ما يخسرون ويصبح الموت خيارا أفضل من حياتهم البائسة يحاولون التغيير، فإن تم التغيير فلا بأس وإن ماتوا قبل أن يجدوا ذلك التغيير فإنه حل أفضل من استمرار الحياة تحت خطوط الظلم والفقر والجوع والعوز والاستبداد.

بعدها يأتي دور السلطة في اتهام المحتجين بأنهم مندسون وعملاء للآخرين. وتشدد في خطابها بأن الوطن مستهدف من القوى الشريرة التي تحرض الناس على مواجهة الظلم، ومن ثم تعود للدين، وهي غالبا لم تكن تقيم له وزنا قبل ذلك، ويخرج موظفو الحكومات الذين يشع نور الإيمان من وجوههم ليخبروا المحتجين أنهم سيذهبون إلى جهنم وأنه من الأفضل لهم أن يتحملوا جحيم الاستبداد طمعا في نعيم الآخرة.

وفي كل ثورة توجد فئة تراقب من بعيد ولا تتدخل حتى تتبين أين تتجه الأمور، فإن سحقت السلطة الثورة صفقوا لها وإن رأوا أن الثورة ستنتصر ركبوها وأصبحوا ثوريين. وهؤلاء في الغالب هم من ستؤول إليهم الأمور بعد نجاح الثورة. وسيعود الشعب المندس إلى حياته البائسة وينعم المستبدون الجدد بالسلطة ونعيمها ويحذرون الناس من قوى الشر التي تريد لهم الجحيم مرتين.

إن فشلت الثورة فإن هذا يحدث غالبا بعد أن يموت الناس ويتشردوا ويصبحوا مثالا جيدا لسلطة أخرى في مكان آخر تسحق الناس وتحذرهم من التفكير في حياة أفضل لأنهم شاهدوا بأعينهم ما الذي حدث لأولئك الذين فكروا ذات التفكير. وتصبح الجريمة جريمة الشعوب وليست جريمة من قتلهم وهجرهم وسحقهم من أجل أن يبقى في مكانه يأكل وحده ويجوع ما عداه من خلق.

وعلى أي حال..

العمالة للآخرين جريمة، لكن سرقة الوطن بما فيه، ودفع الناس في بلد غني إلى المنطقة التي يصبح عندها الموت أو الهجرة على رأس قائمة أحلامهم جريمة أشد قبحا من العمالة. وفي العراق تحديدا تبدو فكرة اتهام السلطة للمحتجين بأنهم مندسون وعملاء لجهات أجنبية فكرة مضحكة، إنها تشبه تماما فكرة موعظة تلقيها مومس تهاجم فيها أي علاقة خارج إطار الزوجية.

agrni@