بندر الزهراني

فلسفة الاختلاف في الرأي والميول

السبت - 28 سبتمبر 2019

Sat - 28 Sep 2019

يبدو أن هناك شريحة ليست بالقليلة من الذين لا يفرقون بين الاختلاف في الرأي حول نقطة معينة، سواء كانت معيارية، أي قابلة للقياس، أو كانت معنوية، وبين الميول والهوى في الحكم عليها.

والسبب وراء هذه الحالة يعود - من وجهة نظري - إلى أمرين: الأمر الأول عدم إدراكنا لأهمية الفوارق الفلسفية بين اللفظ التعبيري والتصويري، فنحن نخلط بينهما تلقائيا ونستخدمهما بشكل تبادلي أو هكذا خبط عشواء، والأمر الثاني هو أننا نغلب إما العاطفة على العقل، أو العكس، وبالتالي نفقد نقاط التوازن بينهما، وتصبح كل نقاطنا في أي حوار ندخل فيه هي نقاط اشتباك مع الآخرين بصرف النظر إن كانت إيجابية أو سلبية، أو كنا على صواب أو خطأ.

وهذه الإشكالية الفلسفية - وإن بدت للبعض ليست بذات أهمية - جعلت أغلب حواراتنا الأكاديمية وغير الأكاديمية حوارات سطحية باهتة، لا تخلق جدلا مفيدا أو نقدا بناء، ولا تعكس شيئا إلا ضعفا في المنطق وضبابية في الرؤية، وهذا ما ترتد آثاره سلبا على نقاشاتنا وحواراتنا في مجالس الأقسام العلمية في الجامعات أو في الندوات والمحاضرات العامة، ولا سبيل للتخلص من هكذا إشكالية إلا بالاعتراف بوجودها أولا، ومن ثم العمل على علاجها، إما بإعادة النظر في كثير من المناهج والبرامج والأنشطة الجامعية التي تغيب عنها أدوات الفلسفة والجدلية البناءة، أو بانتقاء النخب المثقفة والغارقة في لجج الفلسفة لتكون هي الصورة الحقيقية للأكاديميين والممثل الأول لهم في المحافل العلمية.

إن اختلاف الرأي بين المتحاورين يقوم أساسا على أن هناك مرجعية عقلانية يمكن الرجوع إليها، وهذا يحدث في العلوم الرياضية والطبيعية على تنوعها وتعددها، أو في شؤون الحياة اليومية، كاختلاف العلماء حول كروية الأرض مثلا، فعلى مر القرون الماضية كانت الآراء متباينة ومتضاربة حول ما يتعلق بكروية الأرض ودورانها، وكان لكل فريق رأيه ووجهة نظره وأدلته وحججه، حتى وصلنا اليوم إلى يقين تام بأن الأرض كروية، ولا سبيل لمزيد من الآراء في هذا الموضوع، وذلك بسبب ما وصل إليه العلم الحديث من صور عبر الأقمار الاصطناعية تؤكد كروية الأرض بما لا يدع مجالا للشك، أما الاختلاف في الميول فهو لا يخضع لمرجع عقلي أو موضوعي، وإنما يرتكز على هوى النفس وإشباع رغباتها وتحقيق آمالها وتطلعاتها للوصول لأغراضها الخاصة.

وقد أحسنت وزارة التعليم بفعلها حينما أقرت إدخال أسس الفلسفة والمنطق في مراحل التعليم العام، فحاجتنا لأدوات الحوار المفيد والمنطق الصحيح حاجة ماسة وضرورية.

وتتأكد الحاجة عندما يكون الحديث عن الأكاديميين، إذ إنه لا يمكن أن نتصور حالة أستاذ في الجامعة لا يملك أدواته الفلسفية أو لا يحسن استخدامها، وستكون كارثة إن تصدر المشهد الأكاديمي في جامعات المملكة من لا يعطي التصورات الفلسفية والتأملات الذاتية أهمية في تشكيل وتطويع ذهن المتلقي، بل إن اهتمام الأكاديمي نفسه بالنواحي الفلسفية ودلالات الألفاظ وسلامة التراكيب اللغوية، فوق أنها تخلق له هيبة وصورة عظيمة في ذهن المتلقي، وتجعله أكثر عمقا وأسهل طرحا وأقرب طريقا للوصول لأهدافه وأغراضه؛ فإنها تخلق منه شخصا متزنا في حواراته، مرنا في آرائه، متقبلا للآخر وإن اختلف معه، وبالطبع لا يقصد بالنواحي الفلسفية تلك المعقدة التي تدخل الإنسان في دوامة من القلق الذهني والشرود العاطفي.

وحتى نكون في مستوى الحدث عند دراسة علوم الكلام والفلسفة وطرائقها، لا بد لأجيالنا من تعلم كتاب الله، فإنه لا يكون المرء عالما وعاملا بالقرآن الكريم، متنورا ببركته، مراعيا لأحكامه، واعيا بمدلولات ألفاظه وإعجازه، إلا واستقام لسانه وتهذبت ألفاظه وتعمق فهمه واستيعابه، وكان حكمه عند الجدال رأيا تزينه الحكمة أو ميلا يضبطه العقل، أو حاجة ملحة تستدعي مزيدا من البحث والتأمل، لا مجرد وجهة نظر تطرح فقط هكذا كيفما اتفق، أو هوى نفس تفرزه بيئة عمل مشحونة أو تفرضه وجاهة منصب وفخامة مكتب!

drbmaz@