علي المطوع

التحليل السياسي في إعلامنا العربي

الجمعة - 27 سبتمبر 2019

Fri - 27 Sep 2019

ألقت حرب الخليج الثانية بظلالها على قريتي الصغيرة، لم نعلم بحقيقة الغزو إلا في اليوم الثالث، لكن والدي سبر الخبر وأبعاده بعد أن سمعه في إذاعة (لندن) الشهيرة وقتها، ولكونه سبق خبري أعلنه والدي لأمي، فاستنكرت الخبر وقالت له «ريحنا من خبالك»، كون ذلك الخبر يمثل منتهى الخبل السياسي عند أمي، والذي تراه مستحيلا في ظل ما كنا نسمعه عن العروبة وأمميتها الخالدة!

المهم تواترت الأخبار وتسارعت الأحداث، وبدأ التحالف حينها بتهيئة المواطنين لأبعاد هذا الصراع ومآلاته القادمة.

وفي ذروة الحملة الإعلامية بين الجانبين، شاءت إرادة الله أن تختار والدي، وبقينا في منزلنا نعاني المرارتين، الأولى فقد أبي والثانية بوادر صراع عسكري كبير يلوح في الأفق.

كانت أمي في عدتها، وكانت نساء القرية يتعاودنها بالزيارة والسؤال والاطمئنان، وهنا كان يحضر السجال السياسي بينهن حول الأحداث ومآلاتها القادمة والمتوقعة، النساء كن يحاولن التماهي مع أزواجهن في محاولة فهم هذا الصراع ومآلاته، والأزواج كانوا هم المصدر الذي يغذي المنابر الإعلامية النسوية في قريتنا، فكل واحدة كانت تحاول الحصول على سبق يبقيها في دائرة الضوء خبرا وسبقا وريادة.

كانت أسلحة صدام الكيميائية مثار جدل بينهن، وكن يردن أن يؤمن بيوتهن من غاز الأعصاب والخردل والغازات الأخرى، والتي روجت لها وسائل الإعلام على أنها أسلحة يمكن أن تنال من المدنيين.

بدأت النساء وعلى وقع الشعور بالمسؤولية في تشكيل خلايا لإدارة الأزمة كلاميا، وأخذن على عواتقهن متابعة الأخبار وإعادة تدويرها بما يتوافق مع ثقافة ذلك الزمن، كانت أمي تعيش مأساة فقد والدي، ومأساة الخوف المصطنع الذي يحيط بنا من كل جانب، فالتحليل السياسي صار مهنة كل نساء القرية، والبحث عن الأخبار صار شغلهن الشاغل، والمنابر تزداد اتساعا بحضورهن وتجلياتهن.

انتهت الحرب وانتصرت شرعية القضية السعودية وحلفائها، وعادت النساء إلى خدورهن بعد أن أبلين بلاء حسنا في تخليد تلك الأزمة كإصدار أول للمحللين السياسيين.

اليوم وبعد 30 عاما من تلك الأحداث يحضر التحليل السياسي وشؤونه وشجونه من جديد ليرصد مشهد أي أزمة عربية، يحضر المحللون من كل الأطياف والأشكال، ليمارسوا فعليا ما كانت تمارسه نساء القرية في تلك الفترة العصيبة، فمعلومات هؤلاء المحللين لا تعدو أن تكون مجرد لمحات خاطفة من هنا وهناك، هي عبارة عن تنبؤات وتخمينات، وأمان ومناكفات، هؤلاء المحللون يمتهنون الحضور شهوة ويعتسفونه مهنة ومهنية ولباقة وكياسة، منهم من هو رجيع على مستوى تجربة إنسانية سابقة، ومنهم من صنعه الظرف ليكون رادحا أو أحمق يمارس التنوير السياسي على طريقة البسطاء في تلك الهجر قبل 30 عاما خلت.

قد تطربك إنشائية البعض ومصطلحاتهم، ولكنها أشكال كلامية مفرغة من المعلومة الدقيقة، وقبلها الموقف الأخلاقي الصحيح والخبر اليقين، هي عبارة عن ملاسنات أشبه بمبادئ النقائض الشعرية في عصور عربية مضت، وإن كان يشفع للنقائض أنها احتفظت بالشعر وأغراضه ملكة وذائقة وموهبة، وإن صادرت في بعض الصور المبادئ الإنسانية القويمة.

الاستثناء من هذه الحالة العبثية قليل ونادر، والنادر لا ذكر له ولا خبر، ليظل زبد التجربة هو الماكث في الذكر والذاكرة، وأما ما ينفع الناس ويجلي المرحلة فلا وجود له ولا تأثير ولا أثر.

alaseery2@