محمد أحمد بابا

المأزق الاجتماعي والحياة

السبت - 21 سبتمبر 2019

Sat - 21 Sep 2019

يعزو التعبير العامي (قصر العمر) الناتج عن التذمر من أوضاع اجتماعية صعبة وخلال المرور بتجارب إنسانية لها نمط القهر وقلة الحيلة إلى تلك الآثار التي تتركها هذه الأوضاع في معايير طول الأعمار أو نقصها، بحسب من يرى رمي المسؤولية على الجهة الجاهزة لاستقبال زفرات قلبه.

وتأكيدا لمبدأ ديني أن (الأعمار والآجال بيد الله) لا نوقن أبدا أن مصدر تلك الاتهامات سوى خروج نفسي بالمكنونات القلبية ضيقا بهذه الحياة أو عتبا على متعرجاتها المقلقة.

لكن خبرا الذي أوردته الـ (BBC) قبل تسع سنوات تحت عنوان (العوامل الاجتماعية قد تقتل أحيانا) يدعو لإعادة التنظير الذي اعتدنا عليه في هذا المجال.

فالتقرير يقول إن «عمر الإنسان في بيئة اجتماعية راقية وزاهية كحي من أحياء اليابان كفيل بامتداد عمره 42 سنة أكثر مما لو عاش في دولة أفريقية مثل لسوتو»، متحدثا كذلك عن الرعاية الصحية وأحقية الإنسان في رعاية بيولوجية طبيعية بكل مناطق العالم، خاصة تلك التي تكتظ بالسكان بما لا يتناسب مع الخدمات المقدمة لهم.

لكن ما نراه في وسائل إعلامنا من العثور على معمرين ومعمرات تخطوا حاجز (القرن) من الزمن ويعيشون في مناطق شبه قروية تخلو من أي احتياطات صحية يستحق التوقف.

فأغلب الصحفيين الذين يسعون لاكتشاف هؤلاء القدماء الأحياء يسيرون تحقيقاتهم الصحفية تلك نحو إثبات أن البيئة الطبيعية الصحراوية القروية هي أكبر مؤثر في طول أعمار هؤلاء، مستشهدين ببرنامجهم الغذائي ومواعيد نومهم وطريقة تعاملهم مع الحياة اليومية بشكل تلقائي وعفوي.

أما الخبر فقد اعتمد على دراسة استمرت 3 سنوات ركزت على الفقر والحيف الاجتماعي ونقص الرعاية الصحية، وتناولت من بعيد مواطن الحروب والمناطق التي تعيش أزمات لها انعكاس كبير على الأمن والاستقرار.

ومما لا ريب فيه أن كل الأحداث والتغيرات والطوارئ والممارسات، بل وتنقل المشاعر والنفسيات من حيز لآخر وكذلك ما يحظى به الفرد من خدمة سيئة أو متوسطة أو جيدة لهي مؤثرة في استقرار كونه ووجوده حيا على هذه الأرض، على اختلاف نسبة التأثير مع حدة الاستمرار في الوضعية نفسها أو قلة زمنها.

ومن الممكن أيضا أن تبدو الطبيعة التحملية لبيئة أو أخرى مشتركة مع العوامل الاجتماعية في امتداد الشعور بالحياة أو قصرها، فضيق ذات اليد وإغلاق مسام العقل عن التفكير في مخرج من مأزق معين وتواصل المشكلات في الطبقات التي لها قدر محدود من الثقافة والتعليم دون حل أو شبه حل يجعل الاستمرارية في الاتجاه نفسه صعبة للغاية، قد تصل ببعض هؤلاء إلى البحث عن هروب لعالم آخر في دوامة متتالية من التغيرات لتتوقف أخيرا عند موت مفاجئ.

كما هو الحال في ظاهرة (الانتحار) أو محاولة الموت الإرادي في بعض المجتمعات الغربية المليئة بالموجودات المادية والمنعمات الحياتية التي لم تشفع لمن أقدموا على قتل أنفسهم في البقاء على حياتهم قيد الاستمرار، مع الأخذ بعين الاعتبار أن لجوء العقل لقرار كهذا حقيقة أو فضفضة إنما هو ترسيخ للمفهوم الاستثنائي لدى العقل الباطن بأن نهاية كل شيء راحة.

وقد لخصت لنا القيم الإعلامية التي مرت علينا عبر تاريخ القصص والكتب والمسلسلات والأفلام ذلك كله في مجتمعاتنا العربية، حيث غالبا ما نسمع عبارة (عيشة تقصر العمر) و(زهقت من دنيتي) و(ليتني أموت وأرتاح) و(تموتون الواحد ناقص عمر) وغيرها كثير بحسب لهجاتنا الماراثونية في سباق التأفف.

وقلما يخلو أي حل لمشكلة نتابعها عبر أي وسيلة إعلامية تحكي مأساة اجتماعية من مشاهد يقدم فيها أصحابها على الهروب من واقعهم الأليم، بمحاولات إنهاء لحياتهم قد يتداركها الأهل بكسر باب الغرفة ليجدوا علبة أقراص الدواء فارغة، أو يفاجؤون بدم يسيل بكثافة من العرق التقليدي في نهاية الرسغ، أو ذلك التهور الجديد الذي يقدم عليه الشباب المصدوم في علاقاته الغرامية أو الزوجية ويقودون سيارتهم بسرعة جنونية رغبة في حوادث مميتة تريحهم من معاناتهم، أو غيرها من السيناريوهات التي تثبت لنا فعلا أن الأنماط الاجتماعية قد تؤثر في ديمومة الحياة.

كثيرة هي الإسقاطات التي تتراكم في التفكير عند قراءة التقرير الذي نشرته الـ (BBC)، خاصة فيما يتعلق بالموت القسري جراء الظروف الاجتماعية والصحية التي قال عنها التقرير عبارة أخافتني كثيرا، حيث نص على «أن سيدة واحدة حاملا فقط تموت من أصل 17400 سيدة في السويد مقارنة بسيدة واحدة حامل تموت من أصل 8 سيدات في أفغانستان) فماذا أقول بعد؟ لكن تسليتي أن تمني الموت في ظرف استثنائي كمخاض الولادة للأنثى سنة إنسانية (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا)، والحياة رغم كل ذلك أجمل حين يبقى الأمل.

albabamohamad@