يمكن بناء منزل دون أرض

الثلاثاء - 17 سبتمبر 2019

Tue - 17 Sep 2019

الكتابة الساخرة فن عظيم لا يستطيعه إلا القليل من الناس، وهي سهلة ممتنعة على كثير ممن يحاولون مقارفة إثم الكتابة في جو لا يستطيع السير فيه غير القادرين على أن يجعلوا السخرية من الذات أو حتى من الآخر موضوعا محايدا يلجؤون إليه حين لا يجدون أكثر منه أمنا وأقرب للسلامة من ألسنة الناس الحداد، أو حتى من سيوفهم في بعض الأحيان، وفي التراث الثقافي هناك عدد قليل جدا ممن خلد فكرهم وفنهم الأدبي لاذع السخرية فيما يكتبون وفيما يقولون، مع حد أدنى من ضمان السلامة من عقاب المجتمع وسلطاته القاهرة.

ولأن النجاة مطلب مهم من مطالب الناس في القديم والحديث، والتعبير عما يرون من بوائق المجتمع مطلب آخر مهم عند أكثرهم، يذهب القادرون على السخرية إليها ويلوذون بحماها ويعبرون عما ينكرون من قيم المجتمع ودمامته بلغة خاصة بهم، تضمن لهم الحد الأعلى من

التعبير عما يرون في الناس من بذور التفاهة والتخلف، وتضمن أيضا الحد الأدنى من السلامة.

والكاتب الساخر مهموم بشؤون الناس وله عين ترصد المفارقات التي تقع أمامه من تصرفاتهم، فلا يجد بدا من تكبير الصورة وتضخيمها والنفخ فيها حتى تغطي مساحة معقولة من صفحات الواقع الذي يراه ويحس به ويتفاعل معه بكل نشاط وخفة دم.

وأخونا عبدالله المزهر في جريدتكم مكة أو سهيل في صديق الجميع تويتر أو القرني بينهما، أحد هؤلاء الكتبة الساخرين، وأنا أشهدكم وأشهد الله والناس أجمعين أنني لا أعرفه ولم أسمع صوته ولا رأيته منذ كان فعلا ماضيا إلى حتفه حتى اليوم، ولكنني لا أقرأ حرفا واحدا مما تطبعه جريدتكم مكة قبل مقاله إن وجد، وقد لا يكون ذلك إعجابا بسخريته اللاذعة بل - قد يكون دون قصد - شماتة بهذه الشخصية التي يلقي عليها أعباء الدنيا والآخرة، فيضحكنا أحيانا أو يبكينا من تصرفاتها أحيانا أخرى، وأظن أنني قلت شيئا من هذا المعنى قبل اليوم، وآخرها عندما فقدته منذ أسابيع فاشتقت إلى كفشاته وطالبته بالعودة حيا أو ميتا، ومن حسن الطالع أنه عاد في الوقت المناسب، فرد مشيرا إلى مقال العودة الذي كتبه في اليوم نفسه.

لكن ليس هذا هو المهم في الأمر، المهم أنه أشار في مقال له يوم 5/‏9/‏2019م في هذه الجريدة، إلى أن الدراسات الحديثة أثبتت أنه يصعب جدا بناء منزل دون أرض.

وهذا هو بيت القصيدة وموضوع الملاحظة التي أوجبت الرد عليه بما يخالف ما ثبت عنده، فالدراسات التي اعتمد عليها ناقصة وغير صحيحة، وفوق ذلك تبعث على اليأس وتقلل فرص التفاؤل عند أمثاله الذين لم يملكوا أرضا يبنون عليها منزل العمر، مع أنهم يعيشون على قارة كاملة تضيع فيها الركبان.

والثابت في الدراسات الحديثة عند غيره أنه ممكن جدا عند الضرورة بناء منزل بدون أرض، ولا سيما إذا ثبت أن كامل مساحة الأرض اليابسة وصحراءها الشاسعة المشاعة لخلق الله قد أصبحت ملكا خاصا لأفراد أو جماعات أو شركات ومخططات، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت ولم يبق أمامهم غير البحث عن البدائل الممكنة، والبديل هو البحر، ونحن نملك أطول الشطآن على البحر الأحمر والخليج.

ولا يحتاج الأمر لبناء منزل بدون أرض إلا زيارة قصيرة للدول الإسكندنافية للنظر في تجربتهم وبناء منازلهم على البحر، ثم نستشير السادة ماكنزي لتذليل الصعاب التي سيواجهها سكان الصحراء من حرشة الضباب وأكلة اليرابيع الذين لم ير بعضهم البحر فضلا عن السكن فيه، وهي - أي ماكنزي - قادرة على الإقناع بميزات بناء بيوت ومنازل على سطح البحر بدون أرض،ودليلها الأكبر على إمكانية ذلك وصلاحه نص من صلب ثقافتنا العربية الجاهلية:

ملأنا البر حتى ضاق عنا

وظهر البحر نملؤه سفينا

وهذا البيت سيحقق طموح أجدادنا منذ القدم مع توظيف بعض أقرباء المسؤولين عن البيئة البحرية، لأنهم أعلم بما يشيرون به، وأسهل لقبول ما ترى السادة ماكنزي وشركاؤها من آراء ومقترحات تجعل المساكن العائمة على البحر ممكنة وبأسعار معقولة وأملا للناس بعد يأس.

Mtenback@