هشام ناظر.. ذكراه جواهر لا يخفت لها بريق

«يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي»..

«يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي»..

الأحد - 22 نوفمبر 2015

Sun - 22 Nov 2015



«يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي»..

وها هو أخٌ وصهرٌ آخر يسبقني إلى جوار ربٍ كريم.. رحلوا جميعاً وتركوني بمفردي أنتظر موعد اللحاق بهم بعد حين.. مؤمن أنه لا شك آتٍ مهما طالت الأيام وتوالت السنون.. ذلك أن كل من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.

ويبقى الوجع مع هذا الرحيل مضاعفاً.. فقد رحل أستاذي الجامعي وصهري وخالُ أولادي الذي وجدوا فيه معظم العزاء عقب رحيل خالهم الشقيق عبد الفتاح ناظر.. وكأني أشعر اليوم من جديد أن عبد الفتاح قد رحل مرة أخرى مع هشام.. وها هو الحزن يتجدد مضاعفاً.. مع رحيل هشام..

هشام: الجود والكرم، كما يشير الاسم في قاموس الأسماء ومعانيها.. هشام الذي يبقى في قاموس الوطن رائداً أضاء بفكره وإخلاصه وعبقريته دروباً لم تكن ممهدةً فتعهدها تمهيداً وتذليلاً.. حتى أمست ميسّرةً معبدة، فسارت عليها خطىً مخلصةً تنشُد لهذا الوطن العظيم الرفعة والعزّة والازدهار. لقد كان هشام رائداً صدق وطنه فتركزت عين القيادة عليه فلم تخطئه، بل أمنته مخططاً.. وائتمنه نائباً وخبيراً، ووزيراً وسفيراً. ولعل عامةً الناس وخاصةً قد سبقوني في الإسهاب بمنجزاته وإنجازاته لهذا البلد المقدس.. ولكنني وحدي القادر ـ بحول الله ـ على الحديث عنه أخاً وصهراً ورفيق عمر..

جعله موت أبيه المبكر – محيي الدين ناظر – أمام مواجهة مبكرة مع المسؤولية التي غرست فيه روح القيادة الأسرية، فتعهد إخوانه وأخواته بالرعاية الصادقة وأولاهم العناية الفائقة، رحمةً وبرّاً حتى غدا مثالاً صادقاً في الوفاء ونموذجاً رائعاً في المحبة والعطاء.

وعلّها الروح التي نمت بأعماقه، ولازمت أداءه المهني وفكره العملي، فتحقق له ما تحقق من ريادة ونبوغ.

رحم الله أخي هشام محيي الدين ناظر، فقد كان شفةً باسمةً دون أن يفرج عن ثناياه، وكان قلباً خافقاً بالحب دافقاً، وكأن مئات القلوب تسكن في حناياه.. وكان التخطيط والابتكار وسعة الأفق بعضاً من مزاياه..

أعلم أنه الموت، مغيّبُ الأجساد ومواريها الثرى.. ولكنه قد يكون في بعض الأحوال ومع بعض الرجال حافظاً أميناً لذكرى ما قدموا وبذلوا، لا رغبةً في الخلود.. ولكن أداء لواجب الحياة والوجود، فعملوا عملاً لأيام لا حساب فيها، من أجل يوم حسابٍ بلا عمل.

وإن من أحدٍ أتقدمُ له بالعزاء قبل نفسي وقبل كل مستحق طبيعي للعزاء.. فإنها شريكتي، ورفيقة البدايات، التي كانت وما زالت ترى في أخيها هشام الأب والأخ والصديق.. وما زلت أراه فيها روحاً تسري بالوفاء لاهجةً بالرحمة والدعاء، والعزاء موصول بكل ما يحمله من تقدير ومواساة للدكتورة الأخت أميرة بدوي، النموذج الصادق للزوجة الوفية البارة.. والتي بقيت حتى الأيام الأخيرة، تحيط زوجها وشريكها الراحل العزيز هشام بكل ما وهبها الله من حنان واهتمام.

وإذا كان الموت قد أسقط عن رأس عائلة ناظر «تاجها» فسيبقى كل فردٍ في هذه الأسرة العريقة رأساً مرفوعا، وهامةً ممشوقةً، تجعل من ذكراه جواهر لا يخفُتُ لها بريق، ونبراساً وعلاماتٍ على الطريق.. فعشرون وساماً مُنحهَا من مختلف دول العالم.. على رأسها وشاح الملك عبدالعزيز، والوزارات والهيئات والمؤسسات والشركات التي تولى حقائبها، منفردة أو مجتمعة، وثقة الملوك التي حازها، وثقة أولياء الأمر على مدار عمره - يرحمه الله ويرحمهم – تجعل من حق أبنائه وأبنائي، جواهر، لؤي، طل، فهد، ند، مضر.. أن يودعوا جسد أبيهم ويعودوا بعده كما أراد لهم أبوهم، علاماتٍ مضيئةً على دروب هذا البلد العزيز المعطاء.. وأن يظلوا بعده خير الأبناء.. فأنا لا أعرف رجلاً على وجه الأرض.. يُنير ويفنَى على مدار الأيام والسنين، إلا أب ارتضى من هذه الدنيا أن يكون كل عمله ما قدم وما أخر زاداً لأولاده على طرقات هذه الحياة. وليس أهنأ من عين أب يغمضها الموت وقد سكنت أحداقها صورة لفلذاته، أولاده وبناته.. وهم يقفون ثابتي الخطى على أرض صلبة.. يملأ صدورهم الإيمان بالقضاء والتصديق بالقدر خيره وشرّه من الله تعالى.

وما أصدق الإمام الشافعي حين قال:

الدهرُ يومانِ ذا أمنٌ وذا هجرُ

والعيش عيشانِ ذا صفوٌ وذا كدرُ

وفي السماء نجوم لا عداد لها

وليس يُكسف إلا الشمس والقمر

لقد أغلق القدر الحقُّ مركزاً للثقافة ومرتكزاً للفكر.. وسيشتاق أقطابهما وطلابهما إليه شوقاً حثيثاً، وسيذكرونه جليساً وأنيساً.. ولعل الناس في قاهرة المعزّ من جمهور هذه الطبقة الأنيقة المثقفة، سيترحمون عليه معي كثيراً.. وسيذكرون بالخير سفيراً أدرك حقيقة السفارة، فلم يكن مبعوثاً وممثلاً، بل كان ناقوساً مؤثراً، أكّد حقيقة التواصل الفكري بين كل عربي وعربي..

رحم الله هشام ناظر.. الذي لم يشغله الزيت والمعادن.. عن الثقافة والفكر جوهراً ومعادن.. ولم تمنعه رئاسته للهيئة المركزية للتخطيط، وهو وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء.. عن اهتمامه بالأهل والأصدقاء.. تواصلاً وبراً. ولم يحل دون وزير التخطيط، وخطط التنمية الخمسية الخمس، ونيابته لرئيس الهيئة الملكية للجبيل وينبع، والتي أنيط بها مسؤولية بناء أكبر مدينتين صناعيتين في العالم.. لم يحل دون أن يواصل هشام بناء مدن من المحبة والصداقة بينه وبين الناس جميعاً.. لأنه قد آمن أن المناصب إلى زوال.. وأن البقاء لله أولاً، ثم لصالح الأعمال وحميد الخصال.. فلا شيء يدوم على حال، قصر الزمان أو طال.

وهكذا يبقى الموت رسولاً دائماً ليذكر الناس، كل الناس، أننا بشرٌ، وأننا راحلون، وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض.. وأن الأرض مطويّة بيد خالقها والسماوات كطي السجل للكتب.

لقد رحل الحبيب والصديق والقريب.. ولكنه باقٍ في أعماق كل ذي لبّ، ومستمر في وجدان كل ذي بصيرة. وبتُّ أنا على موعد جديد مع راحل عزيز، أتحدث إليه حتى بعد رحيله وأبثّه بعض همي، تماماً كما أفعل بين الحين والآخر مع أعزّاء آخرين رحلوا عن عيوني واستقروا في داخلي واقعاً وتواجداً لا يغيب. فأنا أؤمن أن الإحساس لا يموت مع الأجساد، وأن المشاعر لا تدفن في المقابر.

عزائي ووفائي لكل محبٍ وفيٍ للراحل الكريم، ودعائي لرب العرش العظيم أن يسكنه فسيح جناته، نظير ما قدم لوطنه وأسرته من تضحيات وعناية وحب.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.