أحمد الهلالي

التلفزيون بين البشوتية والانهزامية!

الثلاثاء - 27 أغسطس 2019

Tue - 27 Aug 2019

حين نتحدث عن التلفزيون فإننا نتحدث عن منظومة متكاملة تعمل جادة على رسالتين، الأولى: تتغيا الداخل في قارتنا السعودية مترامية الأطراف، والثانية: تنقل صورة الوطن إلى الخارج نقية مؤثرة كما يجب، بطرائق ذكية تنأى عن التقريرية وأسلوب (تلميع الذات الممل)، وهاتان الرسالتان يحتاج نقلهما إلى احترافية عالية، وعمل دؤوب، ورؤية عملاقة لا تفت في عضدها الموارد المالية، ولا تتجعد ملامحها بتقليد الآخرين، ولا تنهزم نفسيا أمام ما يعرف بالإعلام الجديد، فسيظل التلفزيون موردا أساسيا للمعلومة الموثوقة.

سنأخذ على سبيل التمثيل مهرجان سوق عكاظ، فقد حضر التلفزيون، لكنه حضور محير، يدفعك إلى الضكاء (الضحك والبكاء معا)، ففي المسرح الكبير حفلات غنائية تبث على الهواء مباشرة، وجلها متوفرة على الشبكة بالصوت والصورة، ناهيك عن أن الدخول إليها بمبالغ مالية، وربما يتوجس المنظمون من أن بثها سيؤثر على مبيعات التذاكر، لكنهم رغم ذلك يبثونها، وأمام المسرح الكبير نُصبت الخيمة الثقافية، ببرنامجها الثقافي المنوع الذي يشارك فيه أساتذة وأدباء من مختلف الدول العربية، والدخول إليها مجانا (على علات المداخل والدعاية والإضاءة)، وعربات البث التلفزيوني والإذاعي تعسكر قريبا منها، لكن مع كل أسف هذا الفعل لم يحرك في المسؤولين عن التلفزيون شعرة، فلم أرَ قناة واحدة تدخل الخيمة الثقافية للبث المباشر أو التسجيل والتوثيق على الأقل، والمؤسف أنه لو قيل إن بشتا يتجه إلى الخيمة الثقافية لما وجدت موطئ قدم من تزاحم الإعلاميين وجلبة الكاميرائيين.

استسلام التلفزيونيين للسائد، والخضوع لمقولة إن الناس تبحث عن الترفيه عبر الغناء والمسلسلات فقط، هما في رأيي تسطيح لرسالة التلفزيون الوطنية، ونظرة قاصرة إلى الوعي الاجتماعي، وعذر المقصر في نقل صورتنا إلى الخارج العربي على أقل تقدير، فلا بأس أن تبث قنوات الحفلات الغنائية والترفيهية، لكن في المقابل يفترض أن تبث القنوات الأخرى الفعل الثقافي بما يحمل من هموم ورؤى، فالأموال التي صرفت من خزينة الدولة لاستضافة أدباء ومفكرين وإعلاميين من مختلف مناطق المملكة والوطن العربي (حضورا ومشاركين)، ولجان منظمة، لا يصح أن تذهب سدى، وأن ينحصر أثرها على حضور المهتمين والمدعوين والمنظمين، بل يفترض أن يمتد إلى أرجاء الوطن، ويشاهده المتابع في

الأوطان العربية والعالم، وإلا سيكون تسويق سوق عكاظ إعلاميا على أنه مهرجان غنائي ترفيهي لا أكثر.

أوقفت القناة الثقافية، ومثلها قناة تثقيف الأطفال (أجيال)، وانقطعت خطى التلفزيون عن مناشط المؤسسات الثقافية، وشد المسؤولون في التلفزيون همتهم نحو تقليد قناة العرب الأولى، واستحدثوا قناة مشابهة تشتري ولا تنتج، في الحين الذي اشتعل فيه الحراك الاجتماعي والثقافي استجابة لرؤية 2030، لكنه حراك محجوب إلا قليلا، لا يعلم الناس عنه إلا رؤوس أقلام، من خلال أخبار الصحف، ونتف التغريدات المتناثرة في تويتر، ولقطات السنابيين الذين استثمروا انهزامية التلفزيون فتصدروا المشهد، وغالبا دون وعي ولا رؤية، وكل ذلك يدفع السؤال (الحنظلي) إلى الواجهة: هل تهميش التلفزيون للثقافة يأتي ردة فعل على انفصالها في وزارة مستقلة عن الإعلام؟

ما نزال نرجو أن يتبنى التلفزيون رؤية جادة، تضع الوطن نصب اهتمامها، وتعطي للخارج اعتبارا يليق بنا وبه، ونأمل أن يتعافى الإعلام من (العقدة البشوتية) وانحساره ظلا (لبشوت المسؤولين)، وإهمال جل ما عداها، ونتعشم أن يعود دور التلفزيون الرئيس في رسم رؤية حقيقية للتأثير، تعنى بالإنتاج والابتكار البرامجي، وصناعة النجوم في الدراما والسينما والغناء والثقافة عامة، وإعداد كوادر إعلامية حقيقية خلاقة منافسة، وصياغة استراتيجيات تنبثق من أعماق معاناة الناس جميعا، والفنانين والمثقفين والمفكرين، فهؤلاء هم أساس قوتنا الناعمة التي ننتظر بناءها، ونرجو تأثيرها، كما تفعل الأمم، وللحديث بقية.

ahmad_ helali@