مرزوق تنباك

الإنسانية الباقية

الثلاثاء - 27 أغسطس 2019

Tue - 27 Aug 2019

في الثقافة العربية والإسلامية القديمة خاصة كنوز من القيم الإنسانية العليا التي عرفتها العرب، وعملت بها وجاءت في الآثار المروية عنهم بما يشبه الإجماع على أهمية الرفق والرحمة والشفقة وغيرها مما ينشر فضيلة الحب والعطف الإنساني بين البشر، ويجعل علائقهم وصلاتهم دافئة ومحببة، وليس معنى ما نقول أن هذه القيم خاصة بالثقافة العربية، ولكن لها حظ مشترك بين الثقافات البشرية عامة.

وإذا كان هناك في زمننا الحاضر ما يستحق الملاحظة فإن زمن الشعور الإنساني في أهمية نشر الرفق والرحمة قد فازت به الثقافة الغربية وحضارتها حين وظفت القيم الإنسانية توظيفا مناسبا للحاضر ومتفقا معه، وبرزت بروزا واضحا في تعاملاتهم وفي كل شؤون حياتهم الاجتماعية، بينما بدأ يختفي من ثقافتنا وهج هذه القيم الكريمة، ويقل العمل بها ويتجافى المسلمون في تعاملهم عنها، وقلما أبرزوا ما في تراثهم من الحث على الرحمة والرفق والتسامح.

حين نسمع في الوقت الراهن قيمة الجانب الإنساني نتوجه إلى حضارة الغرب وإنسانيته ونشعر بامتنان له، وهو شعور يشمل أشياء كثيرة، أهمها مراعاة الظروف الخاصة للأفراد والفوارق الاجتماعية بين الناس والتفاعل الوجداني مع الحالات التي تستثير العاطفة الإنسانية الحساسة، ولا سيما عندما يرى الناس حال البؤساء والمحبطين ومن تلقي بهم الأقدار في مواقف العوز والحاجة أو حتى في مهاوي الأخطاء البشرية التي لا تخلو منها المجتمعات، ولا سيما ضحايا الحروب من النساء والأطفال والشيوخ، وما تخلفه من الكوارث الكبيرة التي تلقي بهم في مهابط الردى، ولا شك أن الإنسان في حياته العابرة وفي محيطه الاجتماعي سيمر حتما بمواقف تستثير الجوانب الإنسانية في ذاته في أي حضارة كانت.

لكن الحضارة الغربية أصبحت تلقي الضوء الكاشف على ضعف الإنسان وانكساره، وتحاول أن تبرز هذا الضعف والانكسار في ذاته وتساعد على تجاوز ما هو فيه من معاناة وألم إلى ما يساعده ويفرج همه، بينما تشعر وأنت ترى الثقافة العربية والإسلامية أو بالأصح أهل الثقافة يظهرون كثيرا من مجافاة ما كان أصلا في ثقافتهم وحضارتهم، حتى لكأن ما في الحضارة الإسلامية عند المسلمين تحول إلى جفاء وتوحش وبعد عن قيم الرفق والرحمة والأنسنة.

ولا شك أن ميزان النظر يميل إلى الحكم للثقافة الغربية وليس لصالح الثقافة العربية، لأن الغرب يحتكم في قضاياه وقراراته التي يتخذها إلى تغليب الجوانب الإنسانية في كثير من شؤون الحياة، ويجعل لهذا الجانب مساحة معتبرة حتى في العقوبات والأحكام والقوانين، هناك مجال للعفو والتجاوز وتقدير ضعف المرء وأخطائه فيما يعالج داخل مجتمعاته أو حتى في المحيط العالمي البعيد عنه، وترى اهتماما كبيرا بتغليب حسن الظن والتماس الأعذار، وهذا المعنى أس في حضارتنا الإسلامية (احمل أخاك على سبعين محملا من الخير)، ولكنه معطل في الحاضر مع الأسف.

أما في الغرب فيمكن أن يوصف حاضرهم بأنه عصر ازدهار الجوانب الإنسانية في تعاملهم على كل المستويات التي تلاحظ في تصرفاتهم وفي قوانينهم وفي ممارساتهم العامة والخاصة، وحملهم الناس على حسن الظن، بينما لا تجد إلا القليل في حاضر الثقافة العربية المعاصرة يدل على تمكن الجوانب الإنسانية من معاملات العرب والمسلمين، إنما الجفاف العاطفي هو الغالب على الصلات الاجتماعية والمعاملات والقضايا والأحكام العامة.

اليوم في الفضاء المفتوح على مساحة الكون لا يخفى في تصرفات الشعوب ما تقدمه الأمم من تنظيمات موكول إليها رفع مستوى الوعي بالجوانب الإنسانية وتكريس الجهود لخدمة قطاع كبير من البشر الذين يتعرضون لكوارث الحروب والفقر والقحط، وأكثر ذلك يحدث في بلاد المسلمين التي تستعر بها الفتن ويغلب القوي فيها الضعيف فينتشر الفقر والمجاعة، وتكون مأساة الناس فوق ما يحتمل المصلحون تداركه وإصلاحه.

هذا الوضع المؤسف يحدث أكثره في بلاد المسلمين ويتعرض ضعفاؤهم لما يندى له جبين الرحمة والرفق، دون أن يجدوا ما يخفف جراح المجروحين ويرفع الظلم عن المظلومين. هنا يكون للرحمة والشفقة معنى خاص في دلالته وفي الرسالة التي يؤديها الراحمون الذين يرحمهم الرحمن كما في الحديث الذي نرويه ونردده في تراثنا وثقافتنا، ويطبقه ويعمل به غيرنا.

Mtenback@