يا خيبة ابن وثاب في شكيب!
الثلاثاء - 20 أغسطس 2019
Tue - 20 Aug 2019
يحكي ليجان السكمري أن رجلا يدعى الطاهومة، كان مغرما بكتابة يومياته على زجاج ولاعات السجائر، وذات لقاء طلب منه الولاعة، ونسيها في جيبه، وفي البيت أثارته الخدوش، فاستعان بعدسة مكبرة وقرأ فيها:
كنت والندامى، في مجلس أبي غويد بن وثاب، ننتظر ضيفا من أصدقائه القدامى، وبينا كنا نخوض في أحاديث السواقي، وانفجارات معسكر الصقر العراقي، دخل علينا رجل فارع الطول، أبيض القسمات مشرب بحمرة، يكاد شاربه أن يضيء تحت ظلال أنفه، ولولا قوة أذنيه لسقط عقاله على رقبته، وعاقب بين طرفي شماغه على منكبيه، واحدة أطول من الأخرى، فاستقبله ابن وثاب بحرارة، وأجلسه على كنبة جواره، ودنَيا من بعضهما يتهامسان بما لا نسمع منه إلا الوسوسة، وحين صمتا لارتشاف القهوة؛ هممت بسؤاله، فرن جواله، بنغمة تركية، كاد إيقاعها أن يحرك أصابعنا، لكن هيبة المجلس جعلتنا نتظاهر بالتسبيح!
أجلت بصري على وجوه الحاضرين، فكانت ملامح الدكتور جواس تستدر عجبي، لكأنه من فرط حملقته في الضيف بدوي يتفحص ناقة في سوق الكعكعية، امتلأ وجهه كلاما له تضاريس مقلقة، قطعني عن قراءتها قيام ابن وثاب يدعونا إلى المأدبة العظيمة، كنا نحسبها انقطعت عن مجلسنا، فجذبني فضولي للجلوس جوار جواس، فاستملت قلبه بقطع من لحم خروف الشاورما؛ لأن جدتي تزعم أن قطع اللحم تساوي وزنها ذهبا عند ابن الصحراء الجائع. سألته عن أحوال الجامعة، فامتعض وتغيرت ملامحه، حتى استقام عارضه كأشواك البرشومي، فتشاغلت بتقطيع اللحم.
كانت ضحكات ابن وثاب ترن في صالة الطعام، أما الرفاق فغارقون في صليل الملاعق والشوكات، وأنا في بحر فضولي، أهدئ نارا تحت قدر الضغط المجلجل في صدري. رأيت عين الدكتور تراود لحمة عن نفسها، فتطاولت وقطعتها ووضعتها في صحنه، فابتسم، فاهتبلت الفرصة لأسأله: هل تعرف الضيف؟ فأجاب: لا، لكنه ثعبانيّ، جميل براق أملس، وهو سام جدا، أنظر إلى هيئته، لباسه وملامحه ونغمة جواله، خليط من نباتات شوكية شتى، أنا متوجس منه. قلت: إذن فأنت لا تعرفه، لكن فراستك تشعر بخبثه، فهز رأسه منشغلا بقطع اللحم التي حشدتها في صحنه الصبور، ولات حين ندم!
عدنا إلى المجلس، فحاولت الجلوس قريبا من الضيف المفتون بأحاديث ابن وثاب، تنحنحت، وتضاحكت، وفرقعت أصابعي، وحاولت اقتناص فرصة للعبور معهما في الحديث، لكن دون جدوى، حتى نهض الضيف، وقام معه ابن وثاب إلى سيارته مودعا، فاقتربت وسألته عن ضيفه، فقال: هذا الدكتور شكيب شامان، صديق قديم، كان.. فرن جواله، وتركني في محراب التجاهل، فاتبعت خطى القوم خارجا من الفناء. عدت إلى منزلي، وصحوت الصباح، لأجد فضولي منغمسا في مشاغل الحياة اليومية حتى أخمص الهموم.
وبعد ثلاث سنوات، كنا في مجلس ابن وثاب، كعادتنا نجامله، ونشاهد مباراة التنس الأرضي بين نجمين يعرفهما هو فقط، فضغط على الريموت بالخطأ ظانا أنه الجوال، فظهرت قناة أخبار ثعبانية، تغمس الكرة الأرضية في البحر وتخرجها جافة، فاستعذنا جميعا بالله، وغطينا أعيننا بأطراف الشُمُغ، لكنه لم يغير القناة، وحين سمعناه يقول (اعقب يا الخاسي) التفتنا لا شعوريا فشاهدنا صديقه شكيبا يتحدث، فنظرنا إلى مضيفنا، كأن وجهه يتصدع، وينفث الرماد، كانت ملامحه تومض بخيبات متعاقبة، وشكيب يتحدث عنا وعن بلادنا، كما كان يتحدث عندنا عن إسرائيل!
أغلق ابن وثاب القناة، فقطب الدكتور جواس حاجبيه، وقال: لا تبال به، إنه مرتزق، أمثاله كثيرون، ولا يحفظ مواقف الشرفاء إلا الشرفاء، ولقد.. فقاطعه ابن وثاب: لو تعلمون كيف انتشلت ذلك البائس من القاع حتى صنعته رجلا مرموقا؛ لعرفتم معنى مرارة (الخيبة) المصبوبة على كبدي الآن. فانبعث فضولي من مرقده، فقلت: بالله عليك أخبرنا. قال:
كان والده فقيرا معدما، يعمل في مزرعة صديقي دهلان، وحين.. فقاطعته عبارة الخادم (العشاء جاهز)، ولما جلسنا إلى المائدة انشغلنا بأشياء خاصة، وكالحلم سمعت ابن وثاب يقول: أرأيتم كيف يتفنن في عض أيادينا أنملة أنملة؟ ويلغي ذاته ليصبح لطخة حبر باهتة في جوقة المرتزقة. حقيقة يا (رياجيل)، لا أعلم الآن: أأنا حزين علينا أم حزين عليه؟!
وفي قاعدة الولاعة نقش الطاهومة: فتنحنح القاضي أبوالريش بن شلقم وهو يمسح لحيته بزيت الزيتون، وقال: (لا يضر الكريمَ جحود اللئيما)، فانتفض جواس، وقال: اللئيمِ، بالكسر، كسر الله لحي العدو!
ahmad_ helali@
كنت والندامى، في مجلس أبي غويد بن وثاب، ننتظر ضيفا من أصدقائه القدامى، وبينا كنا نخوض في أحاديث السواقي، وانفجارات معسكر الصقر العراقي، دخل علينا رجل فارع الطول، أبيض القسمات مشرب بحمرة، يكاد شاربه أن يضيء تحت ظلال أنفه، ولولا قوة أذنيه لسقط عقاله على رقبته، وعاقب بين طرفي شماغه على منكبيه، واحدة أطول من الأخرى، فاستقبله ابن وثاب بحرارة، وأجلسه على كنبة جواره، ودنَيا من بعضهما يتهامسان بما لا نسمع منه إلا الوسوسة، وحين صمتا لارتشاف القهوة؛ هممت بسؤاله، فرن جواله، بنغمة تركية، كاد إيقاعها أن يحرك أصابعنا، لكن هيبة المجلس جعلتنا نتظاهر بالتسبيح!
أجلت بصري على وجوه الحاضرين، فكانت ملامح الدكتور جواس تستدر عجبي، لكأنه من فرط حملقته في الضيف بدوي يتفحص ناقة في سوق الكعكعية، امتلأ وجهه كلاما له تضاريس مقلقة، قطعني عن قراءتها قيام ابن وثاب يدعونا إلى المأدبة العظيمة، كنا نحسبها انقطعت عن مجلسنا، فجذبني فضولي للجلوس جوار جواس، فاستملت قلبه بقطع من لحم خروف الشاورما؛ لأن جدتي تزعم أن قطع اللحم تساوي وزنها ذهبا عند ابن الصحراء الجائع. سألته عن أحوال الجامعة، فامتعض وتغيرت ملامحه، حتى استقام عارضه كأشواك البرشومي، فتشاغلت بتقطيع اللحم.
كانت ضحكات ابن وثاب ترن في صالة الطعام، أما الرفاق فغارقون في صليل الملاعق والشوكات، وأنا في بحر فضولي، أهدئ نارا تحت قدر الضغط المجلجل في صدري. رأيت عين الدكتور تراود لحمة عن نفسها، فتطاولت وقطعتها ووضعتها في صحنه، فابتسم، فاهتبلت الفرصة لأسأله: هل تعرف الضيف؟ فأجاب: لا، لكنه ثعبانيّ، جميل براق أملس، وهو سام جدا، أنظر إلى هيئته، لباسه وملامحه ونغمة جواله، خليط من نباتات شوكية شتى، أنا متوجس منه. قلت: إذن فأنت لا تعرفه، لكن فراستك تشعر بخبثه، فهز رأسه منشغلا بقطع اللحم التي حشدتها في صحنه الصبور، ولات حين ندم!
عدنا إلى المجلس، فحاولت الجلوس قريبا من الضيف المفتون بأحاديث ابن وثاب، تنحنحت، وتضاحكت، وفرقعت أصابعي، وحاولت اقتناص فرصة للعبور معهما في الحديث، لكن دون جدوى، حتى نهض الضيف، وقام معه ابن وثاب إلى سيارته مودعا، فاقتربت وسألته عن ضيفه، فقال: هذا الدكتور شكيب شامان، صديق قديم، كان.. فرن جواله، وتركني في محراب التجاهل، فاتبعت خطى القوم خارجا من الفناء. عدت إلى منزلي، وصحوت الصباح، لأجد فضولي منغمسا في مشاغل الحياة اليومية حتى أخمص الهموم.
وبعد ثلاث سنوات، كنا في مجلس ابن وثاب، كعادتنا نجامله، ونشاهد مباراة التنس الأرضي بين نجمين يعرفهما هو فقط، فضغط على الريموت بالخطأ ظانا أنه الجوال، فظهرت قناة أخبار ثعبانية، تغمس الكرة الأرضية في البحر وتخرجها جافة، فاستعذنا جميعا بالله، وغطينا أعيننا بأطراف الشُمُغ، لكنه لم يغير القناة، وحين سمعناه يقول (اعقب يا الخاسي) التفتنا لا شعوريا فشاهدنا صديقه شكيبا يتحدث، فنظرنا إلى مضيفنا، كأن وجهه يتصدع، وينفث الرماد، كانت ملامحه تومض بخيبات متعاقبة، وشكيب يتحدث عنا وعن بلادنا، كما كان يتحدث عندنا عن إسرائيل!
أغلق ابن وثاب القناة، فقطب الدكتور جواس حاجبيه، وقال: لا تبال به، إنه مرتزق، أمثاله كثيرون، ولا يحفظ مواقف الشرفاء إلا الشرفاء، ولقد.. فقاطعه ابن وثاب: لو تعلمون كيف انتشلت ذلك البائس من القاع حتى صنعته رجلا مرموقا؛ لعرفتم معنى مرارة (الخيبة) المصبوبة على كبدي الآن. فانبعث فضولي من مرقده، فقلت: بالله عليك أخبرنا. قال:
كان والده فقيرا معدما، يعمل في مزرعة صديقي دهلان، وحين.. فقاطعته عبارة الخادم (العشاء جاهز)، ولما جلسنا إلى المائدة انشغلنا بأشياء خاصة، وكالحلم سمعت ابن وثاب يقول: أرأيتم كيف يتفنن في عض أيادينا أنملة أنملة؟ ويلغي ذاته ليصبح لطخة حبر باهتة في جوقة المرتزقة. حقيقة يا (رياجيل)، لا أعلم الآن: أأنا حزين علينا أم حزين عليه؟!
وفي قاعدة الولاعة نقش الطاهومة: فتنحنح القاضي أبوالريش بن شلقم وهو يمسح لحيته بزيت الزيتون، وقال: (لا يضر الكريمَ جحود اللئيما)، فانتفض جواس، وقال: اللئيمِ، بالكسر، كسر الله لحي العدو!
ahmad_ helali@