محمد أحمد بابا

لحمة الملوخية

الجمعة - 02 أغسطس 2019

Fri - 02 Aug 2019

في نقاشات كثيرة شفوية كانت أم كتابية أفشل في الانتصار أو الخروج بقناعة وفائدة عند أي حوار بيني وبين أشخاص أقابلهم أو ألتقي بأفكارهم، وأعترف بأنني أفتقد لمهارة الاتصال الفعال وإدارة النقاش وأدب الخلاف الذي يمكنني من المواصلة في حلبة التصارع الجدلي في أحيان كثيرة، ولي الحق في أن أكون كذلك، حيث لم نتعلم صغارا أن هناك من يختلف معنا وهو محق، وأن هناك من له وجهة نظر أخرى وهو مصيب.

والأمر الأدهى من حالتي المرضية هذه هو أن النسيان التربوي الذي عشنا فيه سنوات عديدة من عمرنا إبان خصوبة أفكارنا وطراوة عقولنا انعكس سلبا على كل من عاصر تلك الفترة، وأنتج أشكالا وعينات من المناقشين والمجادلين، بعضهم اكتفى بأن يحمل فيروس هذا المرض دون أن يكون له عدوى أو تأثير على الآخرين بكتيريا «مثلي»، وآخرون أعقبهم ذلك إحباطا في قلبوهم وعقولهم حتى غدوا في هروب دائم، لا يسألون ولا يُسألون، وكل همهم في الحياة الكفاف، وأما الفئة الثالثة فهي الطافية على السطح والمتربعة على صحن الملوخية لتكون بحق وصدق لحمة الملوخية المحيرة.

فكل «المشارقة» يعرفون هذا الصنف من الخضراوات الحشائشية التي إذا طبخت وغليت في قدر اكتنز لحما طريا تسابقت الطبيعية «التزحلقية واللزوجية» من أوراق الملوخية تلك لذات اللحم الموضوع في الإناء، فلن تستطيع الإمساك به ولو استخدمت كل أصابع يديك، لأن اللحمة ستهرب منك يمينا وشمالا، وتصبح في وضع أشبه بمن يطارد سمكة في مياه المحيط، وهذه الحالة الطبيعية التي تكتنف لحمة الملوخية استمرت عصورا طويلة حتى جاءت الملعقة وخففت من حدة الأمر، لأنك تستطيع الإمساك باللحمة غرفا متحملا بعض العوالق بها لأجل عيونها، ولما جاءت الشوكة قضت على الوضع وفتكت باللحم غرزا وسحبا.

ولا شك أن أغلب المجادلين والمناقشين في اللقاءات التي نظلمها ونسميها حوارات باتوا يسبحون في ملوخية عالمية التصقت بأحاديثهم وحججهم وبراهينهم، فلن تستطيع قبض يدك على شيء تقول عنه إنه قول فلان، لتلتقط أنفاسك وترى صدقه من كذبه أو صوابه من خطئه، ولا تكاد تنسجم مع نقطة معينة إلا وفتح عليك صاحب الملوخية هذا بابا آخر ببهرجة وسحر ينسيانك أبوابا كثيرة مفتوحة من قبل، لتصبح في الأخير منبتا لا أرضا قطعت ولا ظهرا أبقيت.

فكم من مناقش فر من الإلزام والاعتراف بالرأي الحق بطريقة الخضراوات هذه، وكم من مجادل استطاع أن يسرح ويمرح في إعلامنا دون رقيب ولا معترض لأنه متلحف بهذه اللزوجة والميوعة اللتين تمنعان الاقتراب منه دون قفازات خشنة أو «شوَك» طويلة قد تودي بحياة قوله وأنت تحاول الإمساك به.

ولم تقتصر هذه الظاهرة على مصارعة الثيران في البرامج التشاكسية، بل تعدتها للكتابة والتأليف والصحافة دون عناء أو تعب، وأصبحت الأمور عائمة، والقضايا معومة، ومحل النزاع ضائعا يبحث عنه الجميع في المكان الخطأ، لنصحو على أمر مناقض تماما لما نحن عليه في تناولنا للموضوعات والأطروحات، راغبين في الموضوعية مهللين بها وهي منا براء ومن ممارستنا بائن.

من يعرف التقارير التي تكتب عن الأفراد أو الأعمال في المؤسسات والدوائر يعلم بأن الملوخية هناك أكثر اخضرارا من غيرها، ومن راقب العديد من المناسبات والاحتفالات ستكتم أنفاسه رائحة غليان ملوخية من نوع آخر وشكل آخر ولحم آخر، ولو حاول التقاط لحمة واحدة من أرتال اللحوم التي يراها ويشاهدها تموج هنا وهناك لخرج «بزَفَر» في يديه دون نتيجة، يلعق آثار عملته من أصابعه بفمه.

وفي عامية الحجاز يعبرون عن سلوك «لحمة الملوخية» بأنه «زفْلَطة»، ويقولون عن صاحب المراوغة هذا بأنه «يتزفلط» مثلها، ولي صديق قديم كان يحور بيت الإمام الشافعي الذي يقول فيه: يُعطيكَ من طرَفِ اللسانِ حلاوةً، ويروغُ منكَ كما يروغُ الثعلبُ، بأن الحق في نظره أن يُقال: ويزُوغُ منك كما يزوغُ الثعلبُ. وفي الزوغان هذا عند بعض اللهجات ما يغني عن شرحه وتوضيحه بالهروب دون علم أحد.

albabamohamad@