ياسر عمر سندي

إدارة المحتوى المعرفي للعقل البشري

الأربعاء - 31 يوليو 2019

Wed - 31 Jul 2019

أنعم الله عز وجل على الإنسان بحسن التقويم وعظمة التكريم، قال تعالى (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، فالإنسان أحسن خلق الله على الإطلاق باطنا لما يحمل في داخله من عمليات فسيولوجية وأجهزة فائقة القدرة والدقة والانضباط في العمل، وظاهرا لما في مكونات شكله وتقاسيم وجهه وجسمه من جمال الرسم وكمال الكسم، وخلقه البارئ المصور حيا وعالما وقادرا ومريدا ومتكلما وسميعا وبصيرا ومدبرا وحكيما، قال عليه الصلاة والسلام «إن الله خلق آدم على صورته»، يعني صفاته التي تقدم ذكرها، وأجمل ما يفخر به هذا المخلوق العاقل أنه يتميز بعقله على سائر المخلوقات المحرومة من هذه النعمة لسببين، الأول القدرة على التأمل والتفكر في ملكوت الله، ومن ثم الوصول لوحدانية هذا الخالق وأحقيته بالعبادة شكرا وعرفانا، والسبب الثاني ما بعد مرحلة التأمل والتفكر، وهي التدبر بنقل الصور الظاهرية للعقل ومن ثم خزنها وتحليلها منطقيا للتوصل إلى آليات إعمار الكون، وتسخير المخلوقات الأخرى للدعم والمساندة وتحقيق التكامل الكوني بين المخلوق العاقل وغير العاقل بتوجيه وتقدير العزيز القدير.

والعقل في اللغة هو الربط والحبس، وسمي بذلك لأنه يربط صاحبه ويحبسه عن الشطحات الذميمة من القول والفعل؛ وللعقل البشري ميزتان داخلية وخارجية، فجماله الإبداعي الداخلي يتم من خلال العمليات العقلية المعرفية المعقدة كالانتباه والإدراك والذاكرة والمخيلة والإرادة والمشاعر، ومن ثم خزن المعرفة وتحليلها للوصول إلى الذكاء في حسن التصرف للموقف الفجائي الحالي أو التخطيط للموقف القادم المستقبلي، ويكمن جماله الخارجي في ترجمة السلوك الصادر من الإنسان في قوله وفعله.

فإذا أحسن التصرف يشار إليه بالإنسان العقلاني وإذا أخفق في سلوكه يوصف باللاعقلاني أي إن عقله تعطل أو انغلق ولم يأتمر بأمر العمليات العقلية السليمة، وفي الحديث «لا طلاق في إغلاق» أي إن طلاق الرجل لزوجته لا يقع إذا تغيب عقله عن المسؤولية والوعي وسلامة المنطق في التصرف، فحكمه الصادر يبطل في تلك الأثناء. وفي الآيات (لعلكم تعقلون)، (أفلا تعقلون)، (إن كنتم تعقلون) تكشف بوضوح عن هذه الحقيقة وهي أن الله وهب الإنسان العقل كي يستعين بقدرته على إدراك الحقائق وفهمها، ويستحق اللوم والتوبيخ إذا ترك الانتفاع بهذه القدرة.

إذن نعتبر العقل هو المايسترو المتحكم لمنظومة الجسم المتكاملة لتحقيق الانسجام والتناغم بين أعضائه بإعطاء الأولويات لكل عضو بتقنين دوره الحيوي بالابتعاد عن الازدواجية والتكرار والتوقيت السليم في إصدار القرار.

وإدارة المحتوى العقلي تنبثق أولا من المكونات المعرفية التي تثري هذا الوعاء البشري كالخبرات والمعلومات والمعارف والعمليات والصور الذهنية السليمة والمشوههة والذكريات والذكاءات والأحلام والرؤى والخيالات والجماليات من الطبيعة والبشرية وغير البشرية والملموسات وغير الملموسات، والكثير الذي لا يمكن حصره أو اختصاره، لذلك يستدعي الأمر وجود إدارة استراتيجية واعية لهذا الكم الهائل من المحتوى العقلي، والتي تعطي القدرة والملكة للإنسان في كيفية سبر أغواره ونبش كنوزه؛ والإدارة تعني القدرة على ترتيب هذه الأولويات وتفنيدها وتقسيمها بحسب أهميتها وضرورياتها، هذا إذا ما تحدثنا عن العلوم العقلية التي أمرنا الله عز وجل بإعمال العقل وإقحامه فيها من أمورنا الدنيوية الموصلة إلى التفكير في ملكوت الله وعظمته والمؤدية حتما إلى العبادة التأملية وتعميق التدبر وإشباعه لتشكيل جانب الخبرة المنقولة، وكذلك العلوم النقلية من ثوابت النصوص تتطلب التفحيص والتمحيص. فمصادر التشريع كفعل الصحابة رضوان الله عليهم واجتهاداتهم ومصدر القياس لديهم يعتبر من الأمور الواضحة في إعمال العقل للبحث في علوم النقل لخدمة الأمة.

ومن وجهة نظري السلوكية والمعرفية أرى أن إدارة المحتوى المعرفي للعقل البشري هي آلية تعمل بالتعاون الشعوري واللاشعوري، حيث تبدأ أولا بإنشاء المحتوى واستقبال المعرفة وخزنها في العقل، وثانيا بتحرير وضبط ذلك المحتوى وقولبته وتنميطه وترجمته، وثالثا بنشر ذلك المحتوى وتعميم الخبرة والمهارة بالسلوك اللفظي أو الفعلي أو كليهما معا، وتحتاج العملية الإدارية أيضا إلى مرحلة رابعة بتفريغ المحتوى على المستهلك وهو المتلقي والمستقبل لما يطرحه المنشئ من معرفة مخزنة كامنة، وجميع تلك العمليات تصدر عن جهة خامسة منسقة وهي صاحب العقل والمدير التنفيذي الرئيس للخروج بمنتج رفيع المستوى للمحتوى العقلي لمعرفة الإنسان لتنشيط عقله وإعماله حتى لا ينطفئ بتعطيله وإهماله.

@Yos123Omar