مرزوق تنباك

لا تضيقوا المسارات أمام المجتمع

الثلاثاء - 23 يوليو 2019

Tue - 23 Jul 2019

يعرف السيل طريقه في بطن الوادي، ويشقه على مر السنين ويسير في رخاء وانسياب، ولا يخرج عنه حتى يعترض سبيله عارض، وكل من هو خارج الطريق فهو آمن من طغيان السيل وتدميره، أما حين توضع الحواجز والسدود في مجراه الذي يسير فيه فإنه لا محالة سيجد طريقا آخر لا بد أن يسلكه، ولكنه لا يهتدي إلى الطريق الجديد ولا يجده حتى يدمر ما حوله ويؤذي الناس والبيئة ويحدث الكوارث والغرق والفيضانات الجارفة.

ومثل السيل يكون سير المجتمع بعاداته وتقاليده وثقافته وقوانينه وقيمه ومواضعاته الاجتماعية التي عرفها وتعايش معها وألف العمل بها واتفقت عليها أجياله. وحين يحدث تغيير واعتراض على قوانين المجتمع أيا كان نوع الاعتراض ومن أي جهة أتى فإن العواقب هي خروج المجتمع عن سيره الطبيعي الذي سار عليه طويلا مثل السيل، والبحث عن المخارج الجانبية والمخارم الخفية ونقاط الضعف في بنية المجتمع وميوله أنى وجدها فيخترق أضعفها وأهونها ليواصل سيره الذي لا يمكن أن يتوقف عنه، ولكنه اختراق مدمر وضار للمجتمع على كل حال، ولا سيما حين يكون الانحراف خفيا وضاغطا، وحين تقوى المصادرة والاعتراضات لسير المجتمع وعرقلة حراكه الطبيعي، وسيكون التدمير مؤثرا وعميقا على كل شيء.

ومجتمعنا مر ويمر بكثير من المصدات والحواجز المفتعلة التي تعكر مساره وتؤثر بالسلم العام وتثير الاستشكال، ومن أهمها غلبة الرأي الواحد وفرضه على الناس في الثقافة وفي العادات والتقاليد والمعارف العامة والخاصة، مما يثير الجدل الممقوت والخلافات والتشتت، ولا سيما ما يتعلق ببعض ممارسة الشعائر الدينية التي ليس عليها إجماع وهي موضوع قابل للخلاف بين الناس. ولو أخذنا مثلا صيام عاشوراء والاحتفال به نجد أنه في كل عام تثار زوبعة من الجدل الطويل بين الناس رغم أنه مناسبة شعائرية، إلا أن للناس فيها آراء وأهواء وأقوالا، فيصبح الحديث عنها قضية اجتماعية وليس دينية فحسب، وتجد أن الناس يشغلهم رأي يقول ورأي يخالف.

ولا نكاد ننتهي من الجدل في أمر عاشوراء حتى يأتي شهر ربيع ومعه المولد النبوي ومن يراه ومن يعترض عليه، فنعيد الكرة ونثير الجدل والحلال والحرام والممنوع والمقبول. ولا نكاد ننتهي من معارك المولد النبوي حتى نصل إلى رجب وما أدراك ما رجب. هذه المناسبات الشعائرية ـ ولا أقول الدينية ـ لم تكن قضية مهمة، وليست من أصول الدين، وكان الاختلاف فيها شأن الخاصة من المثقفين، أما اليوم فقد أصبح الناس كلهم أهل رأي، وكلهم يدلي بدلوه ويعزز رأيه وينكر على من يخالفه، وقد امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بجدل طويل شارك فيه العالم والجاهل، وانتقلت من قضية شعائرية إلى قضية اجتماعية تصنف حولها الآراء ويشتد النقاش، ويبدع هذا الفريق أو ذلك، ويترتب عليها مواقف ضارة بسلامة المجتمع. وليس في الشعائر فحسب بل أصبحت الثقافات الاجتماعية والعادات والتقاليد المحلية موضع خلاف وجدل طويل.

والخلاصة أنه لا يستطيع أحد أن يحمل الناس على رأي واحد مهما كانت صحة هذا الرأي وصوابه عند من يراه، فالمجتمع ينفر من الإلزام ويستثقل الأمر الذي يفرض بالقوة، والمرء ميال لما عرف وألف، وحمل الكافة على رأي الخاصة لا يحقق التنوع في الخيارات الثقافية، وهو تضييق على سعة المسارات المفتوحة للجميع والنفور منه مؤكد على كل حال. إن التنوع مجال لإثراء التجارب الإنسانية وحضورها القوي من أهم ما تحتاجه ضرورات التعايش، لأنه يفسح مجالا للمشترك من الإبداع، ومن يريد أن يصمم المجتمع ويحد نشاطه ويلغي تنوعه الطبيعي بأي صفة كانت يضعف تماسكه وبنيانه، ويثير البلبلة التي لا فائدة من إثارتها.

Mtenback@