فهد عبدالله

المعجزة اليابانية

الخميس - 11 يوليو 2019

Thu - 11 Jul 2019

من المبهر جدا للمتابع التفوق الياباني الذي حصل في العقود الأخيرة في الجانب الاقتصادي وجانب الجودة وما يتبعهما من ركض مستمر في ميادين التقنية والصناعة، وكيف أن اليابان استطاعت في فترة وجيزة أن تتعملق أمام كثير من الاقتصادات العالمية، رغم وجود أكبر العقبات التي تمر بها مثل البيئية الجغرافية وأرخبيلات الجزر غير الصالحة للزراعة، وكذلك محدودية الثروات الطبيعية لديها، فضلا عن كوارث القنابل النووية التي جعلتها تقريبا تبدأ من الصفر، وهذا ما يجعل وصف المعجزة اليابانية (Japanese Miracle) هو أقرب وصف يمكن أن يطلق على هذا السلوك الحضاري الإنساني في تجاوز ضخامة هذه التحديات.

وسنذكر هنا أهم ملامح تلك المعجزة اليابانية:

1. الانسجام (harmony): التأثير الكبير الذي أحدثته الفلسفة الداوية لدى اليابانيين، والتي مفادها عدم الاصطدام بالقوى الطبيعية، والتشبث بسلوك سنبلة الأرز عندما تنحني في مواجهة الرياح العاتية، تجد هذا الانسجام واضحا لدى الفرد الياباني في مشاهد الاهتمام بالجودة على المستوى الفردي قبل الجماعي، في طريقة تحضيره للأكل البسيط الذي يأخذ دقائق من الزمن، وتجهيزه وإخراجه يأخذ أضعاف تلك الدقائق، تجده أيضا في سلوك النظافة العامة في الشارع أو المنزل، والتي تعد أحد السلوكيات التي كونتها الفلسفة الداوية في أشكال الانسجام التي تحدث بين الإنسان والبيئة.

2. الهوية اليابانية والانفتاح: الالتزام بالهوية اليابانية يمثل أحد المقومات التي تقوم عليها الشخصية اليابانية، تجد ذلك مثلا في كتابة أسماء الأجانب بحروف الكتاغانا، وليس برموز الكانجي، لتمييز الياباني عن بقية الجنسيات المختلفة، فضلا عن أن الحصول على الجنسية اليابانية النادر الحدوث يستوجب التأكد من وجود الخبرة الكافية جدا لدى المجنس في العادات والتقاليد اليابانية وممارستها، فضلا عن تغيير الاسم إلى اسم ياباني.

ومن الأمثلة الصارخة في هذا الجانب في فترة الإمبراطور ميجي، والتي تعد الفترة الذهبية لبناء الإنسان الياباني، عندما جرى ابتعاث آلاف من الطلبة النخبة اليابانيين، كان هناك تركيز على شرطين: الأول أن يكون الطلبة المبتعثون متشبعين بالثقافة والتراث اليابانيين، حتى إذا رجعوا لا يكونون سفراء للثقافة الغربية، والثاني أن الهدف من ابتعاثهم وإرسالهم محدد وهو نقل الخبرات العلمية والتكنولوجية.

يراودني هنا السؤال المشاغب عن مدى الأثر العلمي والفلسفي الذي يتأثر به المبتعثون، وأيهما يأخذ الحيز الأكبر من الاهتمام في بلداننا العربية؟ وهل نقل العلم والتقنية ما زال مسيطرا على العقلية المبتعثة أم الثقافة الغربية والتقاليد التي صاحبتها أخذت حيزا أكبر أو مساويا للهدف الرئيس من الابتعاث؟

3. الجودة مقدمة على الإنتاج: عبارة (صنع في اليابان) كانت شعارا مرادفا لرداءة الجودة فيما بعد الاستسلام الذي حصل بعد إلقاء القنبلتين النوويتين في هيروشيما وناكازاكي، وكان هذا التحدي من أكبر التحديات التي كانت في نصب أعين صناع القرار آنذاك.

عام 1947 استقدم عالم أمريكي (إدوارد ديمنغ) من أجل عملية التعداد السكاني المزمع إقامتها في اليابان من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا العالم طور نظرية (شوهارت) سابقا التي تحوم حول أن الإحصاء يمكن أن يستخدم في السيطرة الصناعية ورفع كفاءة الإنتاج، والذي وضع نظاما صناعيا متكاملا قائما على تلك النظرية التي لم تهتم بها الصناعة الأمريكية إلا بعد حين.

تلقف اليابانيون من أصحاب القرار الصناعي نظريات ديمنغ في الجودة كالظمآن الذي وجد ماء باردا، وفي فترة قياسية قصيرة استطاع اليابانيون على أساس نظريات ديمنغ تطوير برنامج متكامل في الجودة يسمى نظام (كايزن) الذي يعني عملية التطوير المستدامة.

وفي فترة وجيزة أصبحت الشركات اليابانية صاحبة الريادة العالمية في مسألة الجودة النوعية في التصنيع.

يذكر هنا أن اليابان عام 2018 حلت في المركز الثالث عالميا في الناتج المحلي (GDP) بعد أمريكا والصين، بواقع 5 تريليونات دولار تقريبا.

نفق إعادة اختراع العجلة في صنع القرار يجعل المراوحة في المكان أو التقدمات البطيئة المحصلة الأكيدة، بينما لو أنفق شيء من الوقت للخوض في تجارب الشركات والمؤسسات والدول ونجاحاتها المتفرقة، سيكون ذلك طريقا معبدا وملهما لصناعة القرار من خلال التعلم والمحاكاة والتطوير، وبذلك نستطيع أن نقول إن تلك المؤسسة أو الشركة بدأت من حيث بدأ وانتهى الآخرون.

fahdabdullahz@