عبدالله حمد الزير

أبو تِرتر

السبت - 06 يوليو 2019

Sat - 06 Jul 2019

ككثير من حكايات الناجحين، كانت لقصة فهد بداية متواضعة لا تبعث على كثير من التفاؤل. فقد نشأ في بيت مزدحم بالأطفال في حي بسيط من أحياء المدينة الكبيرة. كان مفهوم الحياة وأسباب السعادة فيها عند فهد لا تتجاوز الحصول على قطعة من الآيس كريم المثلج أو الذهاب إلى بيت قريب لهم من الأثرياء حيث يجدون في بيتهم كثيرا من الألعاب والمأكولات الغريبة.

وككل الأطفال تقريبا، كانت فترة الصيف رغم حرها وطول أوقات فراغها بردا وسلاما على قلب فهد الصغير قياسا بالمدرسة وواجباتها وويلات عصي مدرسيها. ولكن في صيف ذاك العام تحديدا، كانت حماسة فهد لانقضاء الإجازة وبداية الفصل الدراسي أكثر من أي سنة مضت. فبالإضافة إلى انتقاله للصف السادس الابتدائي، مما يعني أنه سيكون على قمة الهرم الغذائي في المدرسة، هذا العام سيرث فهد حقيبة أخيه الأكبر ماجد، والذي انتقل للمرحلة المتوسطة، تلك الحقيبة التي طالما تمنى اقتناءها، فقد حصل عليها ماجد كهدية من أحد الأقرباء الذي عاد من بريطانيا حديثا. وكان مرسوما عليها صورة لسلاحف النينجا ومعها محفظة أقلام تحمل الرسوم والألوان نفسها.

ملحا بالسؤال، طروبا بالإجابة، كان فهد يسأل أمه كل يوم عن موعد بداية الدراسة. وكان الجواب يأتيه متناقصا على عكس سعادته: بقي أسبوع.. يومان.. وأخيرا انتهت الإجازة. غدا هو اليوم الموعود، غدا سيبز أقرانه بالحقيبة الجديدة، غدا سينسى الجميع أمر حقيبته الخشبية المربعة ذات القفلين، غدا لن يغير أحد رمز أقفال الحقيبة دون علمه موقعا إياه في حرج عند تسليم دفتر واجباته، غدا ستكون انطلاقته الحقيقية نحو مستقبل هو فيه نجم كل أيامه.

ممتلئا بكل تلك المشاعر، انطلق فهد صباح اليوم الدراسي في طريق يعرفه جيدا وحقيبة سلاحف النينجا خلف ظهره يؤرجحها يمينا ويسارا، آملا أن يراها أكبر عدد من أطفال الحارة البسيطة. وبعد كثير من التباهي في الطابور الصباحي، دخل فهد فصله جالسا في مقعد أقرب إلى مؤخرة الفصل، فقد اقترح الأستاذ أن يجلس طوال القامة من الطلبة في الخلف حتى لا يعترضوا مجال رؤية من هم أقل طولا من زملائهم. وقد كان ذلك يناسب فهدا تماما، فذلك يتيح له مجالا أوسع للعبث مع أقرانه والرسم على الطاولة الخشبية القديمة على أي حال.

وبعد انتهاء الحصة الأولى، بدأ فهد وضع مشهد تدرب عليه طويلا موضع التنفيذ.

جاعلا الحقيبة على الطاولة، أخرج فهد ببطء محفظة الأقلام المتناسقة أمام الجميع ليأخذ منها قلما ذا ممحاة، آملا في سره أن يلحظ أكبر عدد من الطلبة الرسمة على حقيبته. يبدو أن خطته نجحت أخيرا، وأتت اللحظة التي رسمها في خياله طويلا، فقد التفت إليه أحد الأطفال متسائلا أمام مسمع العديد من الطلبة «وش ذا المرسوم عالشنطة؟». كان هذا السؤال إيذانا لانطلاقة مشهد الختام على العرض المثير، فقال فهد غير عابئ بالعيون المحدقة، وبصوت يشي باللا مبالاة، ومعيدا بحركة مسرحية ما أخرج من محفظة الأقلام «هذي شنطة نينجا تِرتِر.. جابها خالي من بريطانيا».

لم يكن فهد ولا أي من بقية الأطفال يعرف النطق الصحيح باللغة الإنجليزية لسلاحف النينجا، ولكن ذلك لم يكن مهما لأطفال استفزهم فهد من دقائق الصباح الأولى بحقيبته، فبدؤوا بالضحك بطريقة هستيرية.. «ترتر».. معه شنطة «ترتر».. «شكل خاله جايبها من شارع العطايف».

كان الأمر سينتهي عند هذا الحد، إلا أن أهزوجة انطلقت من طرف الفصل لتنتشر كالنار في الهشيم، ولتجعل الفصل يردد بصوت واحد «أبو ترتر.. أبو ترتر.. أبو ترتر»، امتلأت عينا فهد بالدموع ولعن في ذاته الساعة التي حاول فيها التباهي بتلك الحقيبة المشؤومة. ومع أن الأهزوجة توقفت بعد دخول معلم الحصة الثانية، إلا أن عبارة «أبو ترتر» استمرت مع فهد حتى تخرج في المرحلة الثانوية، وربما بعد ذلك.

قبل عدة أيام، التقيت فهدا، لم أكد أتعرف عليه في البداية بسبب تقادم السنين ومن جراء ما اكتسب بدنه من شحوم أثناء فترة ابتعاثه لدراسة البكالوريوس والماجستير في الولايات المتحدة.

كان ذا حديث مرح وبداهة حاضرة، ولسان رشيق يتنقل بخفة بين العربية والإنجليزية بلا تكلف. وبعد أن أذاب دفء الحديث جدران الجليد، سألته «فهد..هل سامحتني؟»، نظر إلي مليا وكأنه يريد التأكد من مقصدي، ثم هز رأسه ضاحكا بأن حادثة «أبوترتر» كانت أفضل ما حدث له في كل طفولته، فقد جعلت منه مهووسا بتعلم اللغة الإنجليزية في سنوات مبكرة من حياته، وذلك ما سهل عليه كثيرا من أمور الدراسة وما بعدها. أسعدني رده كثيرا، فقررت الاحتفاظ برقمه مسجلا في هاتفي كما هو «أبو ترتر».

@a_h_alzeer