محمد أحمد بابا

قيل لأعرابي

السبت - 01 يونيو 2019

Sat - 01 Jun 2019

وأحب في هذا الزمن محاولة تنقية قصص التاريخ الأدبي والوعظي من افتراءات على ما أسميه بالشخصية الهلامية مثل (قال رجل، وقيل لأعرابي ورأى صالح، وحدثني ثقة) ونحو ذلك، حيث صارت مثل هذه الانتقاءات اليوم من كتب الحكايات (ترند) رسائل الجوال وكتابات مواقع التواصل الاجتماعي بامتياز.

ولو قيل لأعرابي اليوم ما ترى في (الواتس اب) لقال: هو مخلوق من غير أم وأب، على سرعة الاستجابة للاختلاق شب، يعيش ويقتات على كل ما هب ودب. مع أن هذه قصة من اختلاقي أنا وكتابتي ليس لأي أعرابي فيها ناقة ولا جمل.

والمقرر في علم مصطلح الحديث أن من أسباب (الوضع) الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحاديث مختلقة سببا في ظاهره طيب وبداخله ضرر كبير بهذا الدين وهو (دعوة الناس للخير وحملهم على الطاعات) فكثر في الناس اشتهار مقولات منسوبة له صلى الله عليه وسلم في فضل الذكر أو دعاء معين أو صلاة، ونحو ذلك، حتى اختلط الصحيح بالمكذوب الذي أدنى الدين من تصورات الجهال أنه دين كهنوت.

وكذلك فإن قصص بعض الوعاظ عن غرائب الطائعين والصالحين، ومصير الفساق والعاصين - حسب رأيهم - فتحت مجالا كبيرا للكاذبين الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم فنسجوا من غرائب القصص على منوال (قيل لأعرابي) ما الله به عليم.

والنزعة نحو (الأعرابي) بما فيها من عنصرية التوصيف وشبهة عدم استيعاب المعنى الحقيقي للمعنى جعلت منه (ملك الساحة) في أنه يعي بفطرته ما لا نعيه، وكأن ذلك مدح مع أن في باطنه ذما غير مستحق له بعد نهي الله أن يسخر قوم من قوم، والنهي منصب على الباطن والظاهر.

وكم من صديق وزميل لي أو لك أمطرنا بوابل رسائل وعظية في أيام جمعة أو عيد أو ليلة قدر أو توافق أيام مع تاريخ عن (أعرابي) حصل معه كذا وكذا، وقال كذا وكذا، وهو ناقل لها لا يعرف صحتها ولا مصدرها.

لأزعم بأن هناك منهجية جادة تبحث في مصنفات قديمة مدون فيها الغث وقليل السمين عن مثل ذلك في مقولات وأحداث لا تسمن ولا تغني من جوع، أشغلت العالم الإسلامي بما أقعده عن العلم والمعرفة والتطور، رغم أن في نصوص الدين الصحيحة الموثقة ما يغني عن خزعبلات قصصاين ووعاظ لم يتسلحوا بالفقه قبل أمر الناس بالمعروف أو نهيهم عن المنكر.

لا أحسد الأعرابي على موقفه هذا بعبث الناس بخيالات توقعات ردة فعله، بل أغبطه على أجر عظيم سيناله من صبره على (المدرعمين) الذين ينقلون كل هذر ومذر في سباق محموم أنهم متدينون.

ولقد استقر في ذهن العقل الجمعي اليوم للمجتمع والمسلمين بأن إرث التواصي على الاختراع والخيال والتلفيق بعذر غايتة هداية الناس معول كبير قاصم لرقي العقل وإعمال التفكر الذي أمر الله به عباده في كتابه الكريم، فبعدا للقوم الكاذبين.

أتمنى أن يرحمنا الناس والمجتمع وهم يمسكون أجهزتهم بين أيديهم من رسائل محوله تحكي غرائب قول كذب وسخف ولو ظهر وعظا أو إرشادا، فالحق أحق أن يتبع، وليُعط الأعرابي فرصة أن يعبر عن نفسه دون وصاية كاتبين يقولون ما لا يعرفون، وكفى بالقرآن واعظا حيث قال ربي (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) فماذا بعد ذلك؟

ثم إن الاستشهاد بالتاريخ - لو صدق، وسرد الماضي - لو تحققنا منه، ليس حجة على الحاضر، وإن قيل فأدلة الفقه والتحليل والتحريم؟ قلت: تلك نصوص ثابتة تنقل معنى عاما عظيما في مقصد شرعي، وليست قصة يراد منها استنساخ (السيناريو) الخاص بها على إنسان عام 2020 ليظهر نشازا بين نعم الله العظيمة على كل البشرية، ثم يُذم الدين فيضعف الفكر.

أما هؤلاء البارعون الذين ملكوا مهارة كبيرة في الاختلاق والمسرحيات والقصص والأفلام فأقترح على وزارة الثقافة احتضان مهاراتهم فيما يفيد المجتمع من دعوات نحو حسن التعامل والوطنية والحفاظ على الممتلكات والنظافة وشيوع القيم والحث على العلم بأعمال فنية راقية ليس فيها (قيل لأعرابي)، وليس فيها نسبة قصة لزمن مات أهله وبعد شهوده ومحال الثبت من صحة ما قيل عنه.

albabamohamad@