فيصل الحويل

الثقافة.. دبلوماسية القرن الـ 21

السبت - 23 مارس 2019

Sat - 23 Mar 2019

بعد أحداث 11 سبتمبر، وبالتحديد في فبراير 2002، رعت الحكومة الأمريكية معرضا يحتوي على 27 صورة تتضمن تفاصيل هجمات الـ 11 من سبتمبر، وأقيم المعرض في 60 دولة، وكان الهدف الرئيس من العرض تشكيل والحفاظ على الذاكرة العامة لدى الناس عن الهجوم وتبعاته.

سعى العرض لإظهار الجانب الإنساني من الحادثة، وليس فقط المباني المدمرة، كما تمت دعوة أقارب الضحايا لحضور افتتاح المعرض، وبهذه الطريقة، كانت الولايات المتحدة قادرة على تشكيل الصورة التي تريد الناس أن يروها من الحادثة ومنع العالم من النسيان حتى يومنا الحاضر.

من يبحث في مصادر صناعة القرار والحفاظ على الأمن الوطني في دول العالم العظمى سيجد حتما أن الثقافة إحدى أهم أدوات القوة الناعمة والتواصل الاستراتيجي التي يجري إنشاء الوزارات والمراكز والمكاتب وتخصيص الميزانيات من أجلها في تلك الدول، وعيا وإدراكا منها بأنه في هذا العالم المتغير والمتسارع أصبح نشر ثقافة الدولة عالميا والتبادل الثقافي مع الدول الأخرى ركيزة أساسية لا غنى عنها، بل إنها الوسيلة الأكثر تفاعلا وأثرا بشكل مباشر وغير مباشر على سياسة الدولة الخارجية وأمنها الوطني.

يقول عالم السياسة ورائد مفهوم القوة الناعمة الأمريكي جوزيف ناي في كتابه الشهير «القوة الناعمة» إن «جاذبية الثقافة الأمريكية ساهمت في تحقيق الأهداف الكبرى للسياسة الخارجية الأمريكية»، واستشهد في ذات الكتاب بعدة أمثلة جعلت الثقافة الأمريكية التي تم تسويقها عالميا تغزو العالم كقوة ناعمة مؤثرة.

ينظر للثقافة من قبل عديد من المختصين على أنها هي دبلوماسية القرن الـ 21 ووزارة خارجية الشعوب، نظرا لما تملكه من مقومات وأدوات متعددة ومحببة للشعوب أكثر من الدبلوماسية التقليدية ذات الطابع الرسمي والمقتصرة على تعيين سفير وإقامة سفارة وتواجد بعثة دبلوماسية ومراسم وأنظمة وأعراف.

أدوات الدبلوماسية الثقافية هي الفنون بأنواعها كالأفلام والموسيقى والرسم، والمعارض الفنية والثقافية، وبرامج التبادل التعليمي والثقافي كإستقبال الطلاب الدوليين وابتعاث المواطنين وبرامج نشر اللغة الأم، والأدب، وفتح فروع للمكتبات الوطنية بالخارج وترجمة المحتوى الأدبي كالشعر والروايات والكتب بلغات مختلفة، إضافة إلى تبني والمشاركة في برامج ومؤتمرات وندوات حوار الأديان، جميعها وأكثر تشكل لغة ثقافة مفهومة وارتباطا ذا أثر وتأثير مباشرين على قلوب وعقول ومشاعر البشر بكل اختلافاتهم.

الاهتمام أيضا بالدبلوماسية الثقافية من قبل الحكومات يزيد بشكل فعال من متانة العلاقات الدولية ودعم جهود الأمن الوطني ومكافحة التطرف والإرهاب ونشر التسامح والسلام وتقديم صورة إيجابية عن الدولة وثقافتها وسياساتها وتعزيز التعاون في الحاضر والمستقبل، واقتداء الدول ببعضها في تحسين سياساتها وقوانينها، وأخيرا منع وإدارة وتخفيف أي صراع أو أزمات بين الدول في المستقبل، وهي رهان السياسة الخارجية الذي لا يخسر.

أحد أشهر أمثلة الدبلوماسية الثقافية كان «معرض عائلة الإنسان» وهو معرض صور بدأ عام 1955م برعاية من الحكومة الأمريكية لتغيير صورتها بعد الحرب الكورية، وإبراز الجانب الإنساني فيها، وعرضت فيه أكثر من 500 صورة إنسانية لأكثر من 230 مصورا، وأقيم لمدة 8 أعوام في 91 موقعا في 39 دولة، وجذب جماهير غفيرة وترك أثرا وصل لدرجة أن يتم اعتماده ضمن سجل ذاكرة العالم التابع لليونيسكو تقديرا لقيمته التاريخية.

برنامج «فولبرايت» الأمريكي المرموق يعد أيضا أحد أبرز أمثلة برامج الدبلوماسية الثقافية المميزة عالميا، حيث يتم من خلاله تبادل الشباب والعلوم والمهارات، بدأ عام 1946 ونتج عنه حصول 59 شخصا من 14 دولة على جائزة نوبل و37 شخصا أصبحوا فيما بعد رؤساء دول أو من كبار المسؤولين بالحكومات، مما يخلق لدى أولئك المسؤولين ارتباطا وذكريات مع أمريكا وثقافتها ويؤثر على صنعهم للقرار.

كما أن صناعة السينما كانت ولا زالت ذات دور رئيس كأداة دبلوماسية ثقافية عابرة للقارات والحدود يتم من خلالها مخاطبة الشعوب وبث الرسائل والمعلومات المراد ترسيخها لدى الناس ودعم الاقتصاد الوطني، مثل «هوليوود» الولايات المتحدة، و»بوليوود» الهند، والسينما المصرية والسينما البريطانية، والدول تجني من تلك عوائد سياسية وثقافية، إضافة إلى عوائد اقتصادية تتجاوز 38 مليار دولار أمريكي.

فعليا، الثقافة هي العامل الأساس الذي يشكل «الهوية التسويقية للدول والحكومات»، والتي من خلالها يتم تشكيل صورة إيجابية عن الدولة، وإدارة سمعتها، ومواجهة تحدياتها وجلب الاستثمارات والسياح إليها، حيث تجلب الأنشطة الثقافية والفنية للولايات المتحدة مئات المليارات من الدولارات وملايين الوظائف وصورة ذهنية لدى الشعوب بأنها أرض الفرص والأحلام والقدوة في العلوم والمعارف وتقديمها لقضاياها وسياساتها عبر تلك الأنشطة،رغم أنها دولة لا تملك حضارة أو هوية واحدة، لكنها راهنت على الدبلوماسية الثقافية بسياستها الخارجية.

أخيرا، المملكة مركز مثر لتاريخ وحضارة وذاكرة هذا العالم، وكنز لم يكتشف بعد، وتملك جميع المقومات والإمكانات لنشر ثقافتها عالميا، واستضافة ثقافات العالم لديها، ووزارة الثقافة التي ستعلن استراتيجيتها نهاية الشهر الحالي، ستكون حجر الزاوية بإذن الله للقوة الناعمة السعودية في المستقبل، بالتعاون والتكامل مع كل الأجهزة الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص والمنظمات غير الربحية نحو أخذ الثقافة السعودية للعالمية مكانة ومستوى.

@_FAlHowail