خالد العماري

حركة الأفكار

الخميس - 15 نوفمبر 2018

Thu - 15 Nov 2018

القارئ لتطور العلوم والأفكار والمعرفة الإنسانية يصاب بالحيرة، ويتسلل إلى عقله شيء من الشك في مسلمات بل ومنظومات كثيرة، عندما يراها لا تسير وفق الشكل الافتراضي لحركة الأفكار، ومن أشد ما يكون أن تفضي به هذه القراءة ليرى البشرية كأنها تدور في حلقات مفرغة، في مسائل كبرى وجودية ومعرفية وقيمية؛ وذلك أنها تبدأ البحث أيا كان مجاله، من نقطة شبه صفرية، يستوي فيها المعلوم والمجهول، نتيجة للدهشة، أو التساؤل، أو الحيرة والشك، أو غير ذلك من مثيرات التفكير التي ترد على العقول الحرة والمتسائلة والنقدية، وتقودها للبحث والاستقصاء والتنقيب والكشف، بل إلى الاختبار والتجربة إن أمكن، حتى تظفر بإجابة مقنعة نسبيا ومرحليا، يمكن أن تكون هذه الإجابة نواة لجمع نظائر وأشباه لها، ثم باستقراء ما تيسر من هذه النظائر، يتكون في الذهن ما يشبه القانون أو القاعدة الكلية، التي عادة ما تخرج لحيز الوجود في شكل نص مكتوب.

وبمجرد خروج النص، يكون مهيئا للنقد، ومع النقد تتمايز النصوص، فالنص الجامد يموت سريعا، والنصوص المرنة تنمو وتتطور، وتخضع مرات ومرات لإعادة التحرير والتحبير حتى تكون مقبولة للذات، ومفهومة للآخر، وسالمة في الجملة من النقص المخل، والعلة القادحة.

ومع الأيام قد يتحول نص من هذه النصوص إلى قاعدة صحيحة، ولها تطبيقات كثيرة في واقع الناس، تخول صاحبه لبلورة نظرية ما، وشرح مفاهيمها، ومسائلها ودلائلها، وتطبيقاتها، وتقديمها للناس حتى يقوموا بدور المسوق التلقائي أو المطور القصدي، سواء كان ذلك بطريقة النقد، أم بطريقة البناء على الأساس والتفريع عنه، أم بالطريقتين معا، وقد تتهيأ فرص أخرى، وظروف مواتية أو معاندة لانتقال هذه النظرية من مجال البحث، إلى مجال التداول، ثم ترقى في مدارج الثقافة المحلية وربما يصل بها الحال إلى العالمية إذا ما تحدثت عن الإنسان بوصفه إنسانا، عندها تصبح مؤثرة في المنظومات المعرفية، والنماذج الإدراكية، والتوجهات الفاعلة، والأعراف المهيمنة، وهذا هو سبب انتشار الفلسفات والنظريات في مجالات السياسية والاقتصاد والاجتماع وغيرها.

لكن ما الذي يحدث بعد ذلك؟

هل هناك ثبات في مكانة وتأثير هذه النظريات ولو بصورة متذبذبة؟ أم يقع الانكسار والتراجع ويكون المجال مهيأ لنظريات أخرى تقوم على أنقاضها؟

حتى نصل لجواب مقنع علينا أن نفترض أن النظرية تنتقل من درجة الصفرية إلى درجات متقدمة حتى تصل إلى أقصى ما يمكن لها، ولنقل إلى مئة وثمانين درجة من الانفراج بعيدا عن نقطة الصفر، وهو الوضع الذي ليس بعده إلا الانفراج المنعكس والمتمم للتناظر الدائري، بحيث يصل الانفراج لأقصاه عند درجة الثلاثمئة والستين، وهو انعكاس يوصلنا لنقطة البدء، لكن هل هذا الانعكاس يعني أننا سنعود للقيمة الصفرية مرة أخرى؟! هذا ما يبدو لنا لو رسمنا ذلك على ورق مسطح، لكن الصواب أن التحولات الواقعية في الفكر والتاريخ البشري تأخذ شكلا لولبيا صاعدا، وهو ما ينقذ الأفكار والنظريات والفلسفات من العبث والحركة في حلقة زمنية مفرغة تعود للصفر في كل مرة، ولا يظهر معها فعل الزمن في الإنسان إلا في صورة تاريخ يعيد نفسه!

مع حركة الفكر اللولبية يتحول الانعكاس إلى دوران ليس في مستوى واحد بل في مستويات متعددة ومتجددة ومتمددة باتجاه المستقبل، وتكون نقطة الصفر ليست هي الأولى بل غيرها، بمعنى أن الصفرية هي قيمة نسبية ذهنية مرتبطة بمستوى جديد، وطور جديد، ونسق جديد، بحسب صيرورة الزمن وتطور المتغيرات الظرفية، وتصبح الأحداث والتحولات سببا في مساعدة الفكر الإنساني على التطور وإحداث قفزات في شتى مجالات المعرفة الإنسانية، وتسهم الانعطافات التاريخية الحادة على وجه الخصوص في وضع منظومات الأفكار والفلسفات أمام تحد حقيقي للتجاوز والتمايز، فمنها ما يستطيع اللحاق بحركة الفكر العام، ومنها ما يقف عاجزا، ويطرح كل أوراقه، ويعلن عن نهاية الزمن، وينذر الناس بنذر القيامة.

ammarikh@