خالد العماري

العالم كما أراه

الخميس - 01 نوفمبر 2018

Thu - 01 Nov 2018

يعجبني جدا هذا العنوان الذي بدأه ألبرت آينشتاين، ونسج على منواله برتراند راسل على ما أظن، في كتابة رؤيتهما عن العالم، وتحرير تجربتهما في شكل مقالات وأفكار وخواطر، وتقديمها للناس.

العالم كما أراه، ليس اختزالا لهذا العالم في شخص عبقري، ولا رؤية فيلسوف، بل هو حكاية تجربة إنسانية مفكرة في الذات والآخر والعالم، سبقتها آلاف الحكايات، وتلتها آلاف الحكايات، ولا زال الإنسان يحكي تجربته، حكايات كثيرة، لكن الحكاية التي نحتاجها هي التي تكشف عن تجليات بشرية، وأحوال معتادة، بنظر فيلسوف، وتعبيرات أديب.

نحتاج لمن يحكي لنا أحوالا معتادة تمر على كل الناس، كالمرض والفقر والفقد والبؤس والعجز وضعف الحيلة، مع شيء قليل من الفشل الاجتماعي في الروابط التقليدية، والشعور بالوحدة والرغبة في العزلة، نحتاجها مفعمة بالإنسانية والعقلانية التي يصل بها الحال إلى احتقار الغايات العادية كما يسميها آينشتاين، كامتلاك الأشياء، والنجاحات الخارجية، والرفاهية، فكل ذلك عنده محتقر لا قيمة له منذ أن كان يافعا!

تختلط هذه الحكايات غالبا بوصف جملة من الحقائق الباهرة، والسنن القاهرة، والأقدار المهيمنة على الكينونة والوجود البشريين، تحت وقع الإكراهات التاريخية، والأحداث المأساوية، والحروب والكوارث، والثورات والنهضات والأنوار، كما يراها أصحابها، أو كما بدت لهم.

يعجبني ذلك؛ لأن فيه دلالات عميقة على تثمين عمر الإنسان، وتقدير حياته بوصفه إنسانا، له نفس وروح وجسد، وسمع وبصر وفؤاد، ويسمع ويبصر ويعقل، ويتحرك ويجتمع وينفرد، ويفكر ويبين ويستبين، هذا الإنسان الذي خلق الله مادته، وسوى صورته، وقدر نظامه، وهداه لهذا النظام، هذا المخلوق الذي منح فرصة التجربة الحرة، والعقلية المختارة، حق له أن يخبرنا عن اختياراته وتحيزاته، وعن آلامه وآماله، حق له أن يسجل حكاياه ويثبت رؤاه، لتروى لذويه ومحبيه، وتبقى لمناوئيه ومبغضيه، فعمره القصير ليس هو غاية ما هنالك، وفكره المستنير قد لا يسقى إلا بعد ذلك، فكيف يجوز له أن يقضي من عمره سنينا وعقودا دون أن يخبر من وراءه بشيء؟!

كل الناس رأوا هذا العالم، لكن كم الذين أخبرونا عنه؟! وكم الذين كانوا أوفياء لأبصارهم وبصائرهم؟ كم الذين دونوا عبقرياتهم وحماقاتهم، وكتبوا عن انتصاراتهم وانكساراتهم؟

ليس مثل التدوين والكتابة في إبقائك حيا، ومنحك العبور لأزمنة ممتدة، والاتصال بمن يشبهك ومن لا يشبهك.

الصور لا تلتقط أنفاسنا وإحساسنا، والشريط المصور لا يخرج عن سيناريو المخرج، والناس لا تنقل أفكارنا وتجاربنا كما يجب، فهنيئا لمن يكتب، وتعزية حارة لمن لا صلة له بالكتابة.

رؤية العالم في بعده الوجودي أو المعرفي أو الاجتماعي رؤية كلية لها بالغ الأثر في بناء الوعي وتوسيع دائرته؛ بل لا يمكن أن تكون واعيا وأنت تقصر نظرك على ذاتك، وعلى من يشبهك، وعلى محيطك الضيق، ومن يلتصق بك بشكل عضوي أو وظيفي!

رؤية العالم في صورته الكلية، ومعرفة الأنساق، وإدراك السياقات، هي خير معين على تفسير الأحداث وتقديرها، بل والتنبؤ بمستقبلاتها الممكنة.

جميل أن نخبر العالم عن تجربتنا، وأجمل منه أن نكون متواضعين في حكاية المنجزات، ورواية الخبرات، وتقديم ذلك في قالب النسبية، وهذا ما صنعه أستاذ النسبية الفيزيائية، وصنعه غيره من الوعاة.

العالم كما نراه، ليس هو العالم كما يصور لنا، وليس هو العالم كما يجب أن نراه، بل هو العالم الذي اشتركنا جميعا في القدرة على النظر فيه، والتفكر في أحواله وأقداره، وكلفنا بعمارته وباكتشاف مكنوناته، وتسخير مقدراته.

العالم واحد والرؤى متعددة، والوعي أن ترى هذا التعدد والاختلاف، وأن تقرأ دلالة ذلك على الثراء الوجودي، وأثره على التجدد الفكري، وأن تساهم في قدرة الإنسان على تثوير المعاني، ورؤية ما في الآفاق والأنفس من الدلالة على الحق والخير والجمال.

ammarikh@