خالد العماري

دوائر الوعي

الخميس - 11 أكتوبر 2018

Thu - 11 Oct 2018

مواضيع الوعي ومتعلقاته كثيرة، لكن عندما نريد مقاربة مفهوم الوعي في إطار التكيف النفسي والتعايش الاجتماعي، فإنه يمكننا أن نقدم نظرية جيدة ونافعة، يمكن تطبيقها في فضاءات عدة، في الأسرة والعمل والثقافة والاجتماع، وهي مما يساعدنا على الوعي الذاتي، والوعي بالآخر، والتهيئة لمزيد من فرص التعاون الواجب، والتشارك الممكن.

بداية، يمكن القول بأن وعينا يتطور ويتمدد في دوائر ثلاث: دائرة الفهم والتفكير، ودائرة الحكم والتقدير، ودائرة الموقف والتعبير، وهذه الدوائر لا تخلو منها حياة إنسان، ولا نشاط مؤسسة أو مجتمع، ولكن الناس بين مستحضر لها، أو غافل عنها، وبين معمل لطريقتها، أو مهمل لآليتها.

الدائرة الأولى، هي دائرة الفهم والتفكير، الفهم غاية، والتفكير طريقنا لبلوغ هذه الغاية، ولا يصح تجاوز هذه الدائرة بحال، بل هي مفتاح الدوائر بعدها، والأصل ألا ننتقل لما بعدها حتى نستوفي حظ النفس والقلب من القبول والفهم البليغ، لأي موضوع أو حال يعرض لنا؛ فمن حقنا أن نفهم، وأن نُفهم غيرنا، وأن نستفهم، ونسأل عما أشكل علينا، ومن حق الآخرين أن نضمن لهم هذا الحق في أي قضية مشتركة بيننا.

الدائرة الثانية، هي دائرة الحكم والتقدير، الحكم غاية، والتقدير طريقنا للوصول لهذه الغاية، وليس المقصود هنا هو الحكم العلمي أو الفقهي أو الحقوقي.. بل يسبق ذلك الحكم العقلي الذي تنبني عليه بقية الأحكام، والذي ينقسم إلى أولي، ونهائي، فالأولي ملازم لقوتنا العاقلة، أي إننا نطلق أحكاما أولية "بالقوة" وبالطبع والجبلة على ما نسمع وما نبصر وما يرد إلى نفوسنا، فنصدق خبرا، ونكذب آخر، ونحب شخصا للوهلة الأولى، ونكره آخر، ونوافق على رأي، ونرفض آخر، بدون تمحيص أو محاكمة أو إعمال للعقل "بالفعل"، ولا تثريب علينا في الأحكام الأولية؛ لأنها لا تعدو أن تكون نتيجة لخبرة ماضية، أو استجابة لحالة نفسية، أو رهينة لظرف ما، لكن يجب أن ندرب أذهاننا ونفوسنا على عدم الانتقال من الحكم الأولي إلى الحكم النهائي القاطع والظاهر، إلا بعد أن نعود لدائرة الفهم من جديد، وأن نعمل تقنيات متعددة متنوعة، كالسؤال، والمقارنة، والاستيضاح، والمناقشة، والمعارضة، والنقد، والمحاكمة، بقدر ما نستطيع.

وبقدر جهدنا واجتهادنا تحصل لنا نوع من الدربة والقدرة للانتقال من الحكم الأولي الذاتي "الانطباعي" إلى الحكم الذي تغلب عليه الموضوعية بشكل شبه نهائي، لا نهائي مطلقا؛ لأن الوعي يستلزم أن تكون لدينا المرونة للمراجعة متى قام موجبها، والتراجع عن الخطأ متى ظهر لنا، والانتقال لما هو أحكم وأفضل وأوعى في كل مرة.

وهاتان الدائرتان، يقضي فيهما العلماء والحكماء طيلة أعمارهم، لا يملون من محاولة الفهم والاجتهاد في الوعي، ولا يتجرؤون على إطلاق الأحكام جزافا، بل يتحرون كثيرا في تجربة الوعي بأي قضية، والحكم على أي ظاهرة أو موقف، ولا يقتربون من الدائرة الثالثة إلا لضرورة بينة، أو مصلحة راجعة، لأن المراجعة في الفهم شاقة على كثير من الناس، وفي الحكم لا يستطيعها كل أحد، أما إذا وصل الإنسان لاتخاذ موقف ظاهر وبين، ففي الغالب أنه لا يرجع عنه إلا بعنت ومشقة، وربما بشيء من الضرر، وتفويت بعض المصالح، بل ربما لا يوفق في التراجع عن موقف وقفه، مهما قام في قلبه من الشك في صحة موقفه هذا.

ولذلك فالدائرة الثالثة، هي دائرة الموقف والتعبير، والموقف هو الغاية، والتعبير هو طرائقنا في إظهار مواقفنا وما نؤمن به، سواء كان التعبير لفظيا، أو إشاريا، أو رمزيا، أو حركيا، أو غير ذلك، وهذه الدائرة هي تتويج لجهدك في الفهم والحكم، وبيان لما أفضى إليه اجتهادك، وأنك قد انتهيت إلى موقف يجب عليك أن تقفه، ويلزمك أن تتحمل غنمه وغرمه، بل وبما يتبعه من مواقف أخرى لم تكن في الحسبان.

لنعط نفوسنا حقها في الفهم، وحظها من الوعي، ولا نتعجل الحكم على ما يبدو وما يظهر؛ فإن هذا من الحكمة، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.

ammarikh@