ياسر سندي

بين الألف والفاء قصص الشقاء

الخميس - 20 سبتمبر 2018

Thu - 20 Sep 2018

عندما قرن الله عز وجل عبادته بالإحسان إلى الوالدين وأقر ذلك بواو العطف في قولة تعالى «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا» الإسراء 23، كان ذلك لثلاثة أسباب رئيسة، أرى أن أولها تبيان التسليم التام بوحدانية الإله وعدم الإشراك به وإخلاص العبادات جميعها الظاهرية والباطنية، فإذا تم ذلك يأتي من هو أحق بالحسنى في القول والعمل وهما الأب والأم، والسبب الثاني أن الله تعالى خلقك من العدم والوالدان هما السبب في وجودك لتحيا وتنعم، والسبب الثالث تقاسم الرحمة، حيث إنها اسم عظيم من أسماء الله الحسنى، وتشعر الإنسان حين يسمعه بالاطمئنان على حاله ومآله، واختص الله عز وجل الوالدين أيضا بهذه الصفة الخاصة، ومنحهما إياها بمجرد أن تشعر الأم أن في أحشائها جنينا ويتلمس الأب معها ذلك الحنين، فتشترك بذلك الرحمة الإلهية والرحمة الوالدية في هذه الصفة الملازمة والمحفزة لتعينهما على تربية الأبناء ورعايتهم وتنشئتهم.

وعندما نستكمل سياق الآية الكريمة ونتمعن في قوله تعالى «إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقلهما أف ولا تنهرهما وقل لهم قولا كريما» نرى أنها انتقلت من الجانب التعبدي لتوحيد الألوهية والربوبية في التعامل مع الخالق جل وعلا إلى الجانب السلوكي في التعامل مع الوالدين، لتذكير الأبناء بالإحسان والرحمة عليهما، خاصة حال بلوغهما سن الشيخوخة أو أحدا منهما، لأن التعامل مع الأب يختلف عن التعامل مع الأم، فالأب يحتاج كثيرا إلى التقدير والاحترام والإجلال والإنصات والمسارعة في تلبية المتطلبات والمساعدة في المهمات، بعكس الأم التي تحتاج إلى الحنان أكثر والعطف بطريقة أوفر والتلطف والمؤانسة بطيب الكلام على الدوام، بسبب أن سيكولوجية الرجل تميل إلى الجدية والانضباط بخلاف سيكولوجية المرأة التي تميل إلى العاطفة والضعف، وأيضا لما أوصانا به حبيبنا المصطفى عليه الصلاة والسلام بقوله «أمك ثم أمك ثم أمك».

في هذا المقال أود التركيز على قضية مهمة بدأت في الانتشار بين أوساط المجتمعات المدنية، وهي «العقوق»، وبحجة واهية يقومون بطمس المصطلح واستبداله بـ «حرية التعبير» لمجرد التبرير بأن الوضع الراهن تغير عن ذي قبل، وأن على الولد والبنت مناقشة والديهما في كل صغيرة وكبيرة، حتى يصل ذلك الجدال منتهاه، بل ويتعدى ذلك إلى عدم الاقتناع بفكرة أن الوالدين لديهما نزعة الخوف اللا شعوري والمتأصل، وأن هذه النزعة تزداد بازدياد المشاكل المحيطة في المجتمع وما يخالجهما معها من اضطراب في التفكير والتصرف يجعلهما في حالة قلق دائم وتوتر على أبنائهما ومستقبلهم، وأحيانا لا يستطيع الآباء السيطرة على مشاعرهم ويقومون بإطلاق العنان لتصرفاتهم ويتبعون سلوك الحماية ومحاولة معرفة كل صغيرة وكبيرة لتهدئة ذلك الشعور الخفي وتلك النزعة التي أخبر عنها المولى عز وجل في محكم آياته بالفتنة «واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة»الأنفال 28، وهناك كثير من حالات العقوق التي يقع فيها محرومو الأجر من الأبناء، فالعقوق له أشكال عدة، ويمكن أن يقع فيه البعض دون أن يشعر أنه ارتكب كبيرة من الكبائر.

ومن وجهة نظري السلوكية أرى أن سلوك العقوق والعياذ بالله ينقسم إلى خمسة أقسام رئيسة، أعتبرها قصص شقاء للأبناء:

• أولا العقوق اللفظي، وأدناه كلمة بحرفين «أف»، وأعلاه «الشتم»، والعياذ بالله، وعدم التأدب معهما في الكلام، والسخرية والتعليق عليهما في الشكل أو طريقة الكلام ورفع الصوت عليهما.

• ثانيا العقوق الإيمائي، وهو ما يكون بلغة الجسد مثل العبوس، وتحديق النظر بهما، والإشاحة بالوجه عنهما، والتهميش واللا مبالاة بحديثهما.

• ثالثا العقوق الوجداني، وهو ما يخالج النفس مثل السخط في النفس عليهما، وتمني الموت لهما أو لأحدهما، خاصة في حال المرض والتعب منهما والتهرب من خدمتهما.

• رابعا العقوق الإهمالي بالجفوة والقسوة، مثل عدم زيارتهما وعدم تلمس حاجتهما والسؤال الدائم عنهما، وعدم الدعاء لهما سواء كانا حيين أم ميتين، وعدم اتباع سلوك الرحمة في التعامل معهما.

• خامسا العقوق الجسدي، وهو الهالك المهلك لا محالة، وفيه خسران الدين والدنيا، مثل الضرب والبصق والدفع.

قال تعالى «واخفض لهما جناح الذل من الرحمة» الإسراء 24، فلا يجتمع الذل مع الرحمة إلا في هذا الموقف العظيم، فكلما تذلل الابن لهما رفع الله قدره في الدنيا والآخرة، وكلما اتبع الرحمة في سلوكه معهما رحمه الله في حياته وآخرته، فالبر سلوك يتربى عليه الأبناء وينشؤون، فالحذر من الوقوع فيما سلف من سلوكيات الشقاء، فذنب العقوق الوحيد الذي عقوبته معجلة في الدنيا قبل الآخرة، وتظهر علاماته بعدم التوفيق وضيق الحال وسوء الأخلاق وفساد الطباع وسوء المعشر مع المحيطين من الأقارب والأصدقاء، ناهيك عن العقوبة المؤجلة في الآخرة، فقصص الشقاء تكمن بين الألف والفاء.

Yos123Omar@