ياسر عمر سندي

فن إدارة الأباريق

الأربعاء - 05 سبتمبر 2018

Wed - 05 Sep 2018

بادئ ذي بدء أود التنويه بأن إدارة الأباريق لا تعد من التخصصات المصنفة علميا في جامعاتنا المحلية الموقرة، ولا في الجامعات الإقليمية عربيا أو عالميا، ولا هي بالدرجة الأكاديمية المعتمد تدريسها في المعاهد والكليات على الإطلاق، لكنها فكر عجيب ونادر سأحاول أن أسلط عليه الضوء أكثر لننبذه مجتمعيا، فمسماه ينقسم إلى «إدارة» وتعني التصرف المتشدد اللازم والضبط المتناهي الصارم، و»الأباريق» جمع إبريق وهو المعروف لدينا بالإناء أو الوعاء لحفظ الماء وغيره من السوائل، ويصنع من الزجاج أو الطين أو المعدن، و»إدارة الأباريق» تعبير مجازي مستعار كناية عن التفاني في إشغال الذات والغير بأمور عادية وتعظيمها وإضفاء الأهمية القصوى عليها، وهي لا تحتاج لذلك الجهد والوقت المبذول. وأرى أنها متلازمة سلوكية مقيتة لنفسية مترددة وتدار بمزاجية مفرطة، ولها أيضا حبكة وأداء لا يتقنهما إلا أشخاص يملكون قدرا عاليا من الفراغ المنطقي والمعرفي، وتكون أساليبهم إما بتوجيه الكلام غير المبرر ومحاولة السيطرة على الحوار أو بالتصرفات المركزية كالإغلاق والصد والمماطلة والإهمال أو بالتهميش والتطنيش والعبوس وإظهار الشكل غير الراضي عن الموقف، أو أنها تكون مجتمعة في سلوك واحد يقوم به شخص واحد في مكان واحد لموقف واحد، أو أن يكونوا أشخاصا عدة يتبعون ذلك السلوك وينتشرون في أماكن متفرقة وينتج عنهم ما يسمى فكر «إدارة الأباريق»، ولأكون أكثر وضوحا فإني أناشد عقلاء المجتمع بأن يحذروا من معتنقي هذا الفكر المعقد والمعطل، وألا يسكتوا عن جهلهم وسلوكهم الإداري التعيس، وعدم إعطائهم الفرصة للتمادي في أساليبهم وأسأل الله أن يخلصنا من هذه الشخصيات التي تتولى أحيانا تسيير الأمور ومصالح العباد والبلاد.

هنالك قصة من الأثر يطلق عليها «مسؤول الأباريق» لا أعلم مدى صحتها، ولكن نحتسبها درسا نستشهد به ويعلمنا تهذيب سلوكياتنا المجتمعية تجاه غيرنا، وعدم إعطاء أي شيء أكبر من حجمه، وعدم الانشغال بأمر لا يسمن ولا يغني من جوع لمجرد إظهار الوجود في الساحة والهيمنة على الموقف ليس إلا.

يحكى قديما أن رجلا انقطعت به السبل وضاقت عليه الأرض بما رحبت وأراد أن يعمل في أي مهنة يتكسب منها قوت يومه، فأشار عليه شخص بأن هنالك وظيفة يمكن أن يعمل بها في أحد مساجد المدينة، وهي تعبئة الأباريق بالماء وترتيبها قبل الصلوات ليأتي المصلون ويأخذ كل واحد منهم إبريقه ليتوضأ منه، قبل الرجل بهذه المهمة على مضض وبدأ ينظر بأهميتها ودورها المجتمعي، وكيف أن المصلين يترددون عليه تحديدا طلبا للأباريق. وبدأ يشعر هو الآخر بالزهو والعظمة من خلال تأديته لهذه المهمة، فجاءه يوما رجل في عجلة من أمره، فأخذ واحدا من الأباريق المملوءة وأسرع بها ليتوضأ، فما كان من مسؤول الأباريق إلا أن صرخ على الرجل وأمره بإرجاع الإبريق وأن يأخذ إبريقا آخر كان بجانبه، فسأله الرجل مستغربا: وما الفرق بين هذا الإبريق وذاك، فأجابه مسؤول الأباريق: وما وظيفتي هنا إلا أن أدير هذه الأباريق. وفي المثل الشعبي عند الإخوة المصريين «يجي في الهايفه ويتصدر».

هذا التصرف من وجهة نظري السلوكية نشاهده في المنظمات بصفة عامة في الدوائر الحكومية والشركات ويتقمص أصحابه دور مسؤول الأباريق، حيث يمارسون سلوكهم بعدة أساليب مختلفة لفظية مثل «تعال بكرة راجعنا»، وفعلية مثل «قيام السكرتير بحجب المراجعين عن المسؤول والتحدث عنهم»، وإيمائية مثل «تصعير الخد للمراجعين وإهمال الرد عليهم»، حتى إن بعضهم مع الأسف تجده يمارس تلك الإدارة المعقدة والفكر البيروقراطي خلف الأجهزة التي تم اختراعها في الأصل لتسهيل وتقديم الخدمات،ونشاهد أيضا تلك السلوكيات في الأمور الحياتية البسيطة في المنزل وبين الأصدقاء، وحتى على التطبيقات الحديثة في الأجهزة الذكية من قروبات الواتس اب وما يحدث من مسؤول القروب أو ما يسمى بـ Admin، حيث يفرض قوانين وأنظمة مبالغا فيها وغير مبررة، كنوع من تعزيز الشعور بمنصب المدير الافتراضي وصاحب القرار لينتقل التطبيق من هدفه الأصلي للتواصل وإثراء المعرفة إلى أسلوب إسقاط وطرح للمشاكل النفسية والتراشق المتبادل بين الأعضاء.

أرى أن تبني هذا الفكر إجمالا والمؤدي إلى السلوك المتحجر ما هو إلا أسلوب دفاع نفسي قوي يعكس حالة من التمركز حول الذات ومحاولة لفت الأنظار وإعطاء الأهمية القصوى لأمر ما وإضفاء هالة من الحساسية العالية عليه، والتي لا تستدعي كل هذا الاستهلاك من ضياع الوقت والجهد للمستفيدين، وتعطيل المصلحة العامة أيضا في سبيل إبراز المصلحة الخاصة، فالإدارة في مجملها سلوك منظم يعكس الفن والذوق والأخلاق للتأليف وحسن التصرف لبلوغ الأهداف، وليست سلوكا يحرمنا الاستمتاع والاستفادة والإفادة في الوقت نفسه، فالفن يكمن في إدارة احتواء المواقف وليس الفن في إدارة الأباريق.

@Yos123Omar