مرزوق تنباك

أنسنة الفرد وتوحش المجتمع

الثلاثاء - 04 أبريل 2017

Tue - 04 Apr 2017

يبحث علماء الاجتماع العلاقة بين الفرد واستقلاله وحريته المبدعة، وعلاقته بالمجتمع الذي ينتمي إليه، ويقولون إن الإنسان اجتماعي بطبعه، أي إنه خلق ليعيش مع الناس من حوله، ولا يستطيع أن يعيش منعزلا عنهم مهما كانت ظروف حياته، وحتى الأمثال والثقافات البشرية تؤكد الحاجة الأساسية للمجتمع والخلطة ولهذا قالوا: (الجنة بلا ناس ما تنداس)، والتوحش والعزلة قبيحان في كل الأحوال بل هما من أكبر الأخطاء التي تفوت على الفرد والمجتمع فضائل كثيرة، ولكن الحديث عن طبيعة العلاقة بينهما مجملا يحتاج إلى التفصيل الذي لا بد منه. فمع أن الضرورة توجب على الإنسان أن يعيش ضمن مجموعة بشرية لا بد له منها يستحيل عليه أن يدير شؤونه بمعزل عن البشر، والواقع أن كل إنسان هو خادم بصفة ما للآخر أدرك ذلك أم لم يدركه.



هذا وجه لا خلاف عليه وهو موضوع إجماع في كل الحضارات والثقافات وفي كل الأزمان والأمكنة، ولذا قالوا: الإنسان كثير بإخوانه قليل بنفسه. أما ما هو موضع نظر وجدل فهو الحد الفاصل بين انضباط المرء في مجتمعه وبين استقلاله بفرديته وتميزه عن غيره حتى في محيطه الاجتماعي، والسؤال: ما هي الحدود الفاصلة بين هذين الحالين؟ الحقيقة أن ذلك غير واضح في كثير من التقاليد الاجتماعية، حيث تتشابك الأحوال الفردية الذاتية والاندماج الاجتماعي، وقد احتاج الفصل بينهما إلى كثير من الدراسات والاعتراضات، ولا سيما في الحد المسموح به بين الفردية والواجبات الاجتماعية.



الأول أن أنسنة المرء لا يلزم منها ذوبان شخصه وإمحاء ذاته في محيط مجتمعه، ذلك ليس في صالح الجماعة، ولا يكون بالضرورة في صالح الفرد لأن الإبداع والتميز لا يمكن أن يحدثا في الذات الجماعية، إنما الإبداع والتميز يحتاجان إلى استقلال تام عن المحيط الذي يعيش فيه الفرد المبدع، فالخلق الذهني يثيره التخلص من الروابط الكثيرة التي تقيد حركة الفرد، والتحرر من القيود التي يفرضها الرأي العام ويلزم بها ولا يتنازل المجتمع عنها.



والفرد لا يبدع ما بقي منساقا في عباءة الجماعة وغير قادر على كسر طوق ضغوط المجتمع وقوانينه الراسخة وعاداته المستبدة، وعليه إذا أراد الإبداع الانعتاق من التصرفات التي يراقبها أفراد الجماعة ويريدونها أن تسود وينتمون إليها مهما كانت أهمية الانتماء أو الشعور به، وهذا تكبيل لحرية الفرد وكبت ضاغط على ملكاته وقدراته الإبداعية فكان لا بد من مسافة معقولة بين الفرد وشخصيته المستقيلة الواعية لدورها والمجتمع الذي ينتمي إليه، فلا يتخلى عن دوره وواجبه الذي يحوطه به المجتمع، ولا ينقاد لتيار الجماعة حيث لا تبرز له قيمة ولا يعلو له شأن.



الاختلاف واسع بين الثقافات في المساحة التي تسمح كل ثقافة لمن يؤمن بها أين تكون حدود الفرد وحدود الجماعة. أكثر الثقافات المحافظة والتقليدية لا تترك مساحة واسعة للفردية المستقلة وتلزم بالانضباط الجماعي، وكل خروج على القياس الذي تسمح به تعده خللا لا تغفره لأفرادها، ولا تقبل منهم البعد من دائرة المحيط العام المتعارف عليه، وتلك مأساة على الفردية التي تنزع إلى الحرية والاستقلال.



أما الثقافات الحرة فهي تلك التي تؤمن بخصوصية الفرد واحترام شخصيته واستقلال رؤيته ولو خالف الناس أجمعين، وكل الاختراقات التي حدثت في تاريخ البشرية كانت نتيجة لضرب مما يسميه الاجتماعيون التمرد على الثابت من الأعراف، والمتبع من التقاليد والمقبول من الجماعة التي تريد من كل فرد فيها انضمامه لنسقها الاجتماعي وليس غير ذلك، والنسق الذي تريده هو مقبرة المواهب والإبداع وهو السور المانع الذي أبقى بعض الثقافات والحضارات في مكان بعيد عن التطور والإبداع والخلق الفكري المغير للأحوال، ويبقى أكثر الناس أعداء ما جهلوا.



[email protected]